الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم -أخي السائل- أولا أن الفصل في قضايا المنازعات محلُّهُ المحاكمُ الشرعية، أو من ينوب منابها، وذلك لأنها الأقدر على السماع من أطراف النزاع، وإدراك حقيقة الدعاوي، والبينات، والدُّفُوع، ثم إصدار الحكم المؤسس على ذلك.
وأما المفتي: فإنه لا يَسْمَع إلا من طرفٍ واحد، ولن يكون تصوره للمسألة إلا بحسب ما تُتِيْحُه طريقةُ الاستفتاء، ولذلك لا يستطيع إصدار الحكم الدقيق في مثل هذه القضايا، وما سنذكره هنا إنما هو على سبيل العموم والإرشاد والتوجيه، فنقول:
1ـ لا شك أن ضرب الأم والدعاء على الوالد من أقبح الكبائر، وأشد العقوق، فالواجب على أخيكم أن يتقي الله تعالى ويتوب إليه، وكونه صاحب حق في المطالبة بماله، هذا لا يبرر له شيئا من الظلم والعقوق، وليطلب حقه برفق وأدب، فقد جاء في الحديث: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى. رواه ابن ماجه، وابن حبان.
ومعنى: سمحًا إذا اقتضى ـ أي: طلَبَ قضاءَ حقِّه بسهولة ويسر، فالسماحة في المعاملة، واستعمالُ معالي الأخلاق، وتركُ المشاحة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، كل هذا مطلوب شرعا.
2ـ لا بد من النظر في الدين الذي يدعيه أخوكم على والده هل تقرون به؟ أم تصدقونه به، أو لا تقرون، ولا تصدقون به، وإذا أقررتم، فهل تقرون بأصل الدين وقدره؟ أم بأصل الدين دون قدره؟ وكل هذه التفاصيل لها أثر في الجواب، ولا بد فيها من رفع الأمر إلى المحكمة الشرعية إن كانت، أو مشافهة من يصلح للقضاء إن لم توجد محكمة شرعية.
3ـ إذا ثبت أن لأخيكم دينا على الوالد، فإن له الحق في المطالبة به، ويدفع دينه قبل قسمة التركة على الورثة، لأن الدين مقدم على حق الورثة في المال.
4ـ ومع أن له الحق في المطالبة بدينه، فإن الدين يدفع له بنفس المبلغ الذي أدانه لأبيه، ما دامت العملة قائمة ولم تلغ؛ لأن الواجب في قضاء الديون أن تقضى بمثلها، لا بقيمتها، فليس لأخيكم المطالبة بفرق السعر، إلا إذا انخفضت قيمة العملة انخفاضا فاحشا، على ما فصلناه في الفتوى: 443404.
5ـ ليس من حقه أن يفرض على الورثة رأيه بأن يأخذ هذا العقار، أو تلك الأرض مقابل دينه، وإنما يأخذ نقودا كما أسلف أباه نقودا، وإن أراد أن يعتاض عن الدين بشيء آخر من التركة، فإن هذا يعتبر صلح معاوضة، وهو كالبيع، وقد بينا شيئا من أحكامه في الفتوى: 442054.
والله أعلم.