الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمسافة القصر مختلف فيها بين أهل العلم اختلافًا كثيرًا، والمفتى به عندنا هو مذهب الجمهور -من المالكية، والشافعية، والحنابلة-، وهو أن هذه المسافة تقدر بأربعة برد، أي: بثمانية وأربعين ميلًا، وهو ما يساوي ثلاثة وثمانين كيلو مترًا تقريبًا.
وثبت هذا بأسانيد صحيحة عن ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصحّح أسانيد هذه الآثار النووي في شرح المهذب.
فمن سافر هذه المسافة، أو أكثر، وكان سفره مباحًا؛ جاز له الترخّص برخص السفر، ومنها القصر، لكنه لا يشرع في ذلك حتى يجاوز بيوت المصر، وتصير خلفه، ليس بين يديه ولا بمحاذاته منها شيء؛ لأن المسافة التي تتعلّق بها أحكام السفر تحتسب من آخر عمران البلد الذي ينشئ منها المسافر السفر إلى الموضع الذي يقصده، قال الإمام النووي -رحمه الله- في المجموع: ابتداء سفره بمفارقة العمران؛ حتى لا يبقى بيت متصل، ولا منفصل، والخراب المتخلل للعمران معدود من البلد. انتهى.
وبالنسبة للبلاد التي يتصل فيها العمران بعضه ببعض؛ فهي في حكم البلد الواحد، لا تحتسب المسافة إلا من آخر عمران لا يتصل به عمران آخر، قال الإمام النووي في الكتاب المذكور: إذا كانت قريتان ليس بينهما انفصال، فهما كمحلتين من قرية؛ فيشترط مجاوزتهما بالاتفاق. انتهى.
وإذا صلى المسافر خلف المقيمِ؛ أتم؛ لما صحّ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنه سُئل: ما بال أحدنا إذا صلّى وحده قصر، فإذا صلّى خلف إمامه أتمّ، فقال: تلك السنة، وفي روايةٍ: سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
وقال المواق في التاج والإكليل: من المدونة قال مالك: إذا صلى المسافر خلف المقيم، اتبعه، وأتم معه.
قال: وكذلك إذا أدرك -يعني المسافر- ركعة واحدة من صلاة المقيم؛ فإنه يقضي ثلاث ركعات. انتهى.
ولو صليت منفردًا، فلا حرج عليك، ولا سيما مع ما ذكرت من ضيق الوقت عن انتظار الجماعة، وطول صلاتها.
والمسافر ليس مخاطبًا بالجمعة، ولا الجماعة، بل ذكر الموّاق في التاج والإكليل عن مالك أنه كره للمسافر أن يصلي وراء المقيم؛ لأن في إتمامه تغيير صلاته، إلا لمعانٍ تقتضي ذلك. فإن ائتم به، فلا يعيد. انتهى.
وعلى كل؛ فلا حرج عليك أن تصلي منفردًا، وتقصر الصلاة إذا كنت مسافرًا سفر قصر مباح.
والله أعلم.