الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فوجه ذلك أن الميت لا يقدر على شيء لنفسه، فضلا عن غيره. وبالتالي فأي سؤال أو استغاثة توجه إليه، يكون فيها شبه بمن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله!
فالاستغاثة بالميت قسيم الاستغاثة بالحي، وهذه الثانية هي التي يُفصَّل فيها بين ما لا يقدر عليه إلا الله، وما يقدر عليه غير الله. بخلاف الأولى، فكلها نوع واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على البكري: الاستغاثة المنفية نوعان:
أحدهما: الاستغاثة بالميت مطلقًا في كل شيء.
والثاني: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق.
فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، لا نبيًا ولا غيره، ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق، وليس لأحد أن يسأل ميتًا أو يستغيث به في شيء من الأشياء؛ سواء كان نبيًا أو غيره. اهـ.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: ومن أنواعه -يعني الشرك-: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم.
وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها.
وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، كما تقدم، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه. والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع إذنه، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها! وهذه حالة كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له، كما أوصانا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم، وعيبهم ومعاداتهم. اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي في «الصارم المنكي في الرد على السبكي»: الميت قد انقطع عمله الذي ينتفع به نفسه، ولم يبق عليه منه إلا ما تسبب في حياته في شيء يبقى نفعه كالصدقة وتعليم العلم النافع، ودعاء الولد الصالح، فكيف يبقى نفعه للحي وهو عمل يعمله له، وهل هذا إلا باطل شرعاً وقدراً، ومن جعل زيارة الميت من جنس زيارة الفقير للغني؛ لينال من بره وإحسانه فقد أتى بما هو أعظم الباطل المتضمن لقب الحقيقة والشريعة، ولو كان ذلك مقصود الزيارة لشرع من دعاء الميت والتضرع إليه وسؤال ما يناسب هذا المطلوب، ولكن هذا يناقض ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد وتجريده مناقضة ظاهرة. ولا ينبغي الاقتصار على ذلك بأنه بدعة، بل فتح لباب الشرك، وتوسل إليه بأقرب وسيلة! وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}. قال: هؤلاء كانواً قوماً صالحين في قومهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم، فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. اهـ.
وقال الصنعاني في «الإنصاف في حقيقة الأولياء، وما لهم من الكرامات والألطاف»: هذه البدعة وهي الاستغاثة بالأموات، وإنزال الحاجات بهم والتوسل، إنَّما هو بقية من عبادة الأصنام؛ فإنَّ الجاهلية كانوا يستغيثون بهم، ويطلبون الحاجات منهم، وكلُّ بدعة ضلالة، كما ثبت في الأحاديث، وأيُّ ضلالةٍ أعظم من عبدٍ يُنزل حاجاته بالأموات، ويعرض عن باري البريات. اهـ.
وقد سبق أن نبهنا على أن دعوى التسوية بين الحي والميت أمر يرفضه الشرع والعقل، وذلك في الفتوى: 22722.
وقد قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ {فاطر:22}. وانظر الفتوى: 193587.
والله أعلم.