الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالقرآن الكريم هو كتاب الزمان كله والإنسانية كلها، لأن منزله الله الذي يستوي عنده الزمان والمكان، وهو أعلم بخلقه، وبما يصلحهم كما قال عزَّ وجلَّ: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك: 14}، فيقال لمنكر أو مستبعد صلاحية أحكام القرآن لكل زمان ومكان وأمة: أتؤمن بأن الله يعلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؟ فإن قال نعم، قلنا أليس من هذه صفته هو منزل القرآن؟ فإن قال: نعم، قلنا: فكيف لا يكون هذا القرآن هو شريعة كل زمان ومكان، ما دام منزله الله الذي أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً؟ قال تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ {النساء: من الآية166}، ففي القرآن علم الله، وعلم الله لا يحد بزمان ولا بمكان، ولا أناس دون آخرين.
قال ابن القيم في قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، أَيْ: أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ. اهـ.
فإذا تقرر ذلك؛ فإن معنى هذا أن أحكامه وتشريعاته ليست مؤقتة بزمن دون زمن، فيقال إنها كانت تصلح لمن كان في عصر الناقة والجمل، ولا تصلح الآن في عصر الطائرة والأقمار الصناعية، والتقدم العلمي، لأن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي أنزل ليحكم البشر، ما بقي منهم واحد على هذه البسيطة، وعلى المسلم أن يعلم أن منزل هذا القرآن هو الله العليم الخبير الحكيم العزيز، أنزله ليكون للإنسان منهاج حياة مهيمناً على شؤونه كلها من عباداته ومعاملاته، وسلمه وحربه، وعلاقاته بكل من حوله، فكما أمره فيه أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت الحرام، فقد أمره أيضاً أن يتجنب الربا والزنا والميسر، وأمره أن يتولى المؤمنين، فلا يتصور في عقيدة المسلم أن يقبل بعض أحكام القرآن ويرفض بعضها، لقد ذم الله قوماً فعلوا ذلك بكتابهم قبلنا وهم اليهود، فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ (البقرة: من الآية85)، ذلك أن ما أنزل الله لا يتجزأ ولا يتبعض الإيمان به، وهذه الازدواجية في الأخذ والرد لا تنتج إلا عن قلب مرتاب شاك في صفات الخالق المنزل للقرآن، كما قال تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ*أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا (النور: من الآية50)، ثم يبين موقف المؤمنين الصادقين حيال الحكم بما أنزل الله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (النور:51)، فقد صدقوا في الإيمان بالله العليم الحكيم فأذعنوا لحكمة القرآن، لأنه من لدن من لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ويعلم ما يصلح الخلق وما يفسدهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14).
وأمام هذا الاعتقاد لا يملكون إلا أن يسلموا لحكمه ظاهراً وباطناً، فإنه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وكل من قال آخذ من القرآن آية الصلاة وأترك آية الزكاة، أو آخذ آية الحج، وأرفض آية المداينة، أو آية تحريم الربا، كان بلا شك معقباً على حكم الله، بل صار يقول بحاله أو بلسانه أنا أعلم من الله، فإن هذه الآية تصلح لي وتلك لا تصلح.
ونقول للأخ السائل أن يعرض هذه الفتوى على والده، ويتلطف معه في الحوار والدعوة، عسى الله تعالى أن يهديه ويزيل الغشاوة التي على بصره.
وأما إنفاقه عليك، فلا مانع منه، ولا حرج فيه ما دام لا ينفق عليك بالمال الحرام.
والله أعلم.