الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن أهل العلم من يرى أن الإصرار على الصغيرة لا يصيرها كبيرة، ومن هؤلاء الشوكاني حيث قال في إرشاد الفحول: الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة. انتهى.
لكن الراجح أن الإصرار على الصغيرة عموما يجعلها كبيرة، وراجع الأدلة على ذلك في الفتوى: 183627، والفتوى: 367534.
وقد بينا كلام الفقهاء في ضابط الإصرار على الصغائر، في الفتوى: 357523.
ولا شك أن العدالة تسقط بفعل كبيرة، أو الإصرار على صغيرة.
وأما هل سقوط العدالة بالإصرار عند الفقهاء يحصل بمجرد التكرار، أم لا تسقط العدالة حتى تغلب المعاصي الطاعات؟
ففيه وجهان عند الشافعية، ذكرهما النووي في روضة الطالبين.
فقد قال -رحمه الله تعالى- في مبحث العدالة من كتاب الشهادات: وَأَمَّا الصَّغَائِرُ، فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِنَابُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ كَانَ الْإِصْرَارُ كَارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَهَلِ الْإِصْرَارُ السَّالِبُ لِلْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمِ الْإِكْثَارُ مِنَ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟
فِيهِ وَجْهَانِ، وَيُوَافِقُ الثَّانِيَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ غَلَبَتْ طَاعَتُهُ مَعَاصِيَهُ، كَانَ عَدْلًا، وَعَكْسُهُ فَاسِقٌ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي «الْمُخْتَصَرِ» يُوَافِقُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوِمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذَا غَلَبَتِ الطَّاعَاتُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَضُرُّ. اهــ.
وهذا ما نص عليه الحنفية أيضا.
جاء في الجوهرة النيرة، على شرح القدوري: وَإِنْ كَانَتْ الْحَسَنَاتُ أَغْلَبَ مِن السَّيِّئَاتِ، وَالرَّجُلُ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ أَلَمَّ بِمَعْصِيَةٍ.
هَذَا هُوَ حَدُّ الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَقِّي الْكَبَائِرِ كُلِّهَا، وَبَعْدَ تَوَقِّيهَا يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، فَمَنْ كَثُرَتْ مَعَاصِيهِ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ، وَمَنْ نَدَرَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. اهــ.
وللحنابلة أقوال منها: أن العبرة بالأغلب، وقيل ألا تتكرر منه، فلو تكررت سقطت عدالته، وقيل إن تكررت منه ثلاثا.
قال برهان الدين ابن مفلح في المبدع: وَفِي الْكَافِي: إِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الصَّغَائِرِ بِالْأَغْلَبِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] . وَقِيلَ: وَلَا تُكَرَّرُ مِنْهُ صَغِيرَةٌ، وَقِيلَ: ثَلَاثًا. اهــ.
والمالكية لم يشترطوا غلبة الصغائر على الطاعات، وإنما اشترطوا الإدمان من غير تقييد بغلبة المعاصي، بل يسقطون العدالة ببعض الصغائر ولو لم يصر عليها فاعلها، وهي الصغائر التي تدل على الخسة والدناءة، فيرون سقوط العدالة عن مرتكبها بفعلها ولو مرة واحدة؛ لأنه ذنب يدل على الدناءة والخسة، بخلاف الصغائر التي ليس فيها خسة، فلا يحكمون بسقوط عدالته إلا بالإدمان من غير تقييد بأن تغلب على الطاعات.
جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ أَنْ لَا يُبَاشِرَ صَغِيرَةَ الْخِسَّةِ مِثْلَ النَّظْرَةِ، وَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى دَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، وَأَمَّا صَغَائِرُ غَيْرِ الْخِسَّةِ فَلَا تَقْدَحُ إلَّا بِشَرْطِ الْإِدْمَانِ. اهــ.
والله أعلم.