الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإثبات وفاة أحدٍ لا يتوقف على شهادةِ وفاةٍ صادرة من الدولة، وشهادةُ السجناء الآخرين على وفاة ذلك السجين إن كانت عن معاينة منهم لقتله، أو رأوه ميتا، فهذه تكفي في إثبات وفاته بلا شك، ولا خلاف بين أهل العلم في إثبات وفاته بشهادتهم، ولا يعتبر مفقودا، والمفقود عند الفقهاء: هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلاَ يُدْرَى حَيَاتُهُ مِنْ مَوْتِهِ، وهذا قد عُلِمَ موته بشهادة من رآه ميتا، بل لو قال السجناء إنه قد مات من غير أن يذكروا تفصيلا هل رأوه ميتا أم لا لكفى ذلك في إثبات وفاته.
جاء في كتاب "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية" لابن عابدين الحنفي:
(سُئِلَ) فِي رَجُلٍ غَابَ عَنْ دِمَشْقَ بَلْدَتِهِ إلَى بِلَادِ الْحِجَازِ مِنْ مُدَّةِ سَنَةٍ وَنِصْفٍ وَلَهُ أَخٌ وَأُخْتٌ شَقِيقَانِ وَعَلَى الْغَائِبِ دَيْنٌ لِجَمَاعَةٍ أَخْبَرَ الْأُخْتَ الْمَزْبُورَةَ رَجُلٌ أَنَّهُ سَمِعَ مِن النَّاسِ أَنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ مَشْهُورًا تَزْعُمُ الْأُخْتُ وَأَصْحَابُ الدُّيُونِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَوْتُهُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ الْمَذْكُورِ فَهَلْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَثْبُتُ الْمَوْتُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؟
(الْجَوَابُ): نَعَمْ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى مَوْتِ رَجُلٍ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَمَّا إنْ أَطْلَقَا الشَّهَادَةَ إطْلَاقًا وَلَمْ يُبَيِّنَا شَيْئًا.
أَوْ قَالَا لَمْ نُعَايِنْ مَوْتَهُ وَإِنَّمَا سَمِعْنَا مِن النَّاسِ.
فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا.
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي إنْ لَمْ يَكُنْ مَوْتُ فُلَانٍ مَشْهُورًا فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ مَشْهُورًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَكِتَابِ الْأَقْضِيَةِ أَنَّهُ تُقْبَلُ. اهــ
ونص الفقهاء على أن شهادة السماع تكفي في إثبات الوفاة إذا كانت باستفاضة.
قال الإمام النووي في المجموع: والموت جاز أن يشهد فيه بالاستفاضة .... وان استفاض أن فلانا مات جاز أن يشهد به لأن أسباب الموت كثيرة، منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها، وفي عدد الاستفاضة وجهان (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لأن ذلك بينة، (والثاني) وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم. اهــ.
ومتى ثبت أن ذلك السجين قد مات، فإنه ليس لزوجته وأولاده الحق في التمسك بطلب شهادة الوفاة من الدولة، أو اعتباره مفقودا، ولوالديه الحق في تركته، وينتقل ذلك الحق إلى ورثتهما بعد وفاتهما، وكون المحكمة حكمت بشيء باطل، فإن هذا لا ينفع الزوجة والأولاد في شيء، ولا يسقط حق الورثة.
جاء في الموسوعة الفقهية: الْبَاطِل لاَ يَصِيرُ صَحِيحًا بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ لاَ تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً بِتَقَادُمِ الزَّمَانِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَعَوْدَتِهِ يُعْتَبَرُ قَائِمًا فِي نَفْسِ الأْمْرِ، وَلاَ يَحِل لأِحَدٍ الاِنْتِفَاعُ بِحَقِّ غَيْرِهِ نَتِيجَةَ تَصَرُّفٍ بَاطِلٍ مَا دَامَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لاَ يُحِل حَرَامًا وَلاَ يُحَرِّمُ حَلاَلاً.
هَذَا هُوَ الأْصْل، وَالْقُضَاةُ إِنَّمَا يَقْضُونَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّةٍ وَحُجَجٍ يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَحْكَامَهُمْ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فِي نَفْسِ الأْمْرِ، وَلِذَلِكَ يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا أَسْمَعُ، وَأَظُنُّهُ صَادِقًا، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. اهـــ.
والله أعلم.