الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالصلاة بين السواري وأعمدة المسجد قد ورد ما يدل على جوازها، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين.
كما ورد أيضا النهي عنها فقد أخرج ابن ماجه في السنن والحاكم في المستدرك وغيرهما عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا.
وفي سنن الترمذي وغيره عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ، قَالَ: صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ، فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَلَمَّا صَلَّيْنَا، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ولذل كان للعلماء في حكمها أقوال وتفصيل، ذكر مجملها الشوكاني في نيل الأوطار فقال:
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كَرَاهَة الصَّلَاة بَيْن السَّوَارِي بَعْض أَهْل الْعِلْم.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ كَرِهَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنْ يُصَفّ بَيْن السَّوَارِي، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَدْ رَخَّصَ قَوْم مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي ذَلِكَ انْتَهَى. وَبِالْكَرَاهَةِ قَالَ النَّخَعِيّ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنه النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ. قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَلَا يُعْرَف لَهُمْ مُخَالِف فِي الصَّحَابَة.
وَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ قِيَاسًا عَلَى الْإِمَام وَالْمُنْفَرِد. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَة بَيْن سَارِيَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَسُوَيْدِ بْنُ غَفَلَةَ يَؤُمُّونَ قَوْمهمْ بَيْن الْأَسَاطِين وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه عِنْد الضِّيق، وَأَمَّا عِنْد السَّعَة فَهُوَ مَكْرُوه لِلْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا الْوَاحِد فَلَا بَأْس بِهِ، وَقَدْ صَلَّى -صلى الله عليه وسلم- فِي الْكَعْبَة بَيْن سَوَارِيهَا انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّ حَدِيث أَنَسٍ الْمَذْكُور فِي الْبَاب إنَّمَا وَرَدَ فِي حَالَ الضِّيق لِقَوْلِهِ "فَاضْطَرَّنَا النَّاس"، وَيُمْكِن أَنْ يُقَال: إنَّ الضَّرُورَة الْمُشَار إلَيْهَا فِي الْحَدِيث لَمْ تَبْلُغ قَدْر الضَّرُورَة الَّتِي يَرْتَفِع الْحَرَج مَعَهَا وَحَدِيث قُرَّةَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا ذِكْر النَّهْي عَنْ الصَّفّ بَيْن السَّوَارِي، وَلَمْ يَقُلْ: كُنَّا نُنْهَى عَنْ الصَّلَاة بَيْن السَّوَارِي. فَفِيهِ دَلِيل عَلَى التَّفْرِقَة بَيْن الْجَمَاعَة وَالْمُنْفَرِد، وَلَكِنَّ حَدِيث أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِم فِيهِ النَّهْي عَنْ مُطْلَق الصَّلَاة، فَيُحْمَل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد. وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ صَلَاته صلى الله عليه وسلم بَيْن السَّارِيَتَيْنِ فَيَكُونُ النَّهْي عَلَى هَذَا مُخْتَصًّا بِصَلَاةِ الْمُؤْتَمِّينَ بَيْن السَّوَارِي دُون صَلَاة الْإِمَام وَالْمُنْفَرِد، وَهَذَا أَحْسَن مَا يُقَال، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِيَاس الْمُؤْتَمِّينَ عَلَى الْإِمَام وَالْمُنْفَرِد فَاسِد الِاعْتِبَار لِمُصَادَمَتِهِ لِأَحَادِيث الْبَاب. انتهى.
وخلاصة ما نختاره من هذه الأقوال القول الأخير المفصل الذي ذكر الشوكاني أنه أحسن ما يقال في المسألة، وهو أنها جائزة للإمام وللمنفرد.
وأما المأموم، فإن كان في المسجد سعة، فلا تنبغي له الصلاة بينها حتى لا تقطع الصفوف، أما إذا ضاق المسجد بالمصلين، فلا مانع أن يصلي المأمومون بين السواري قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد. انتهى.
والله أعلم.