الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور، متفق عليه، رواه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر، وفيه الترغيب في الاستعفاف عما في أيدي الناس، وعدم سؤالهم -لا بتصريح، ولا بتلميح، ولا بتطلع-.
ومعنى قوله في الحديث: فَلَا تتبعه نَفسك، أَي: أن لم يَجِيء إِلَيْكَ، فَلَا تَطْلُبْهُ، بَلِ اتْرُكْهُ، كذا قال شراح الحديث، وفي حاشية السندي: أَي: فَلَا تجْعَل نَفسك تَابِعَة لَهُ، ناظرة إِلَيْهِ؛ لأجل أَن يحصل عنْدك، إشارة إِلَى أَن الْمدَار على عدم تعلق النَّفس بِالْمَالِ، لَا على عدم أَخذه، ورده على الْمُعْطى. اهــ.
وإذا كان المدار على هذا؛ فما لم يأتك، ولم تتبعه نفسك أيضًا، فلا حرج في أخذه، وقد نص الفقهاء على أن هذا النهي للكراهة، قال القرطبي في المفهم: وهذا النهي على الكراهة، يرشد إلى المصلحة التي في الإعراض. اهــ.
فتلك الموائد الموضوعة للعامة، والتي لم تُدعَ إليها بعينك، إن تعلقت بها نفسك، فاترك الأكل منها؛ عملًا بالحديث.
وإن لم تتعلق بها نفسك، فلا نرى حرجًا في أخذك منها، وكذا ماء السبيل.
وإذا كان الأكل من تلك الموائد جرى العرف بأن فيه دناءة، فاتركه، ويكون حكمه حكم إجابة الدعوات العامة، التي لا يعين فيها المدعو، فقال بعض الفقهاء بكراهة إجابتها؛ لما في الإجابة من الدناءة، وقيل بالجواز، جاء في الموسوعة الفقهية: تَعْمِيمُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلاَئِمِ: اخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (الْجَفلَى)، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِجَابَتِهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ. اهــ.
وعلة الكراهة عند الحنابلة أن في إجابتها شيئًا من الدناءة، قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الزاد عند قول المصنف: فَإِنْ دَعَا الجَفَلَى، أَوْ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ، أَوْ دَعَاهُ ذِمِّيٌّ كُرِهَتِ الإْجَابَةُ ...اهــ قال:
«فإن دعا الجفلى»، وهي دعوة العموم، مثل أن يقول: هلموا أيها الناس... «كرهت الإجابة»، والتعليل أن في ذلك دناءة بالنسبة للمدعو ... والصحيح أنها لا تكره، بل هي جائزة، وقد ثبت أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرسل أنسًا ـ رضي الله عنه ـ وقال له: «ادع فلانًا، وفلانًا، ومن لقيت»، فعيَّن في الأول، ثم عمّم. اهـ. مختصرًا.
فعلى قول الجمهور؛ فلا حرج عليك في الأكل من تلك الموائد الموضوعة للعامة، ولم تخصص للفقراء، أو الصائمين، وإن خصصت لصنف معين، فلا تأكل منها، إلا أن تكون من أهلها.
والله تعالى أعلم.