الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا علاقة لما ذكرته بتتبع عورات المسلمين، فالمقصود بالحديث النهي عن التجسس، وهو تتبع ما خفي من عيوب المسلم لإشاعتها بين الناس، والمخالفات المرورية أمر ظاهر، وليس خفيا، وأيضا: فالمخالفات تصور فيها السيارات لرفعها للحاكم، ولا تعرف هوية السائق أصلا، فليس فيها إذًا نشر لعيب مسلم بين الناس، فضلا عن أن المخالفات المرورية قد لا تعد مما يعاب به أصلا في كثير من البلدان العربية -للأسف-، بل قد تكون مدعاة للفخر والقوة والحذق في القيادة عند ضعاف العقول.
قال الطيبي: ((ولا تتبعوا عوراتهم)) فيما يظن أي لا تجسسوا ما ستروا عنكم من الأفعال والأقوال، وما ستر الله عليهم.
قال الشيخ أبو حامد: التجسس والتتبع ثمرة سوء الظن بالمسلم، والقلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق، فهو يؤدي إلى هتك الستر. وحد الاستتار أن يغلق باب داره ويستتر بحيطانه. فلا يجوز استراق السمع على داره؛ ليسمع صوت الأوتار، ولا الدخول عليه لرؤية المعصية، إلا أن يظهر ظهورا يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والسكارى بالكلمات المألوفة بينهم. وكذلك إذا ستروا أواني الخمر وظروفها وآلات الملاهي في الكم وتحت الذيل، فإذا رأى ذلك لم يجز أن يكشف عنه. وكذلك لا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه في داره. اهـ من شرح المشكاة.
وجاء في الفتح المبين في شرح الأربعين للهيتمي: (ومن ستر مسلما) من ذوي الهيئات ونحوهم ممن لم يعرف بأذى أو فساد بأن علم منه وقوع معصية فيما مضى فلم يخبر بها حاكما ولا غيره، وهذا للندب؛ إذ لو لم يستره بأن رفعه لحاكم. . لم يأثم إجماعا، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروها.
وخرج برفعه لحاكم كشفها وهتكها بالتحدث بها، وهذا غيبة محرمة شديدة الإثم والوزر؛ قال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}، وأخرج ابن ماجه: من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه؛ لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته.
وخرج على المعنى الأول بنحو ذوي الهيئات المعروف بالأذى والفساد، فيندب، بل قد يجب ألا يستر عليه، بل يظهر حاله للناس حتى يتوقوه، أو يرفعه لولي الأمر حتى يقيم عليه واجبه من حد أو تعزير ما لم يخش مفسدة؛ لأن الستر عليه يطمعه في مزيد الأذى والفساد.
وبوقوعها فيما مضى معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها، فتلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر، وإلا فيرفعه للحاكم؛ كما مر ما لم يترتب عليه مفسدة .اهـ. باختصار. وراجع حول التجسس والستر الفتويين: 167735 // 27163
ويبقى الكلام في أصل الموقف الشرعي من فرض مبالغ مالية على المخالفات المرورية، وهذا ما سبق أن بيناه بإسهاب في الفتاوى: 38803// 118280 // 122397. فراجعها.
والله أعلم.