الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما سؤالك الأول: فإن كان أخوك -رحمه الله- قد مات حتف أنفه، ولم يمت منتحرًا، فهو -إن شاء الله- من الشهداء؛ لأن الغريق شهيد.
وإن كان قد مات منتحرًا، فقد مات على الإسلام، وترجى له رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ فعليكم أن تدعوا له، وتجتهدوا في ذلك؛ لعل رحمة الله تتداركه، وقد دلت النصوص على أن المنتحر من جملة المسلمين، وأنه ليس خارجًا من الملة بهذا الفعل، وأنه تحت مشيئة الله تعالى، ففي صحيح مسلم عن جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ؛ فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ فِي مَنَامِهِ وَهَيْئَتِهِ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فاغفر.
قال أبو زكريا النووي -رحمه الله-: فيه حجة لقاعدة عظيمة لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ وَتَقْرِيرُهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ شَرْحٌ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ، الْمُوهِمُ ظَاهِرُهَا تَخْلِيدَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ عُقُوبَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ فِي يَدَيْهِ. فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّ. انتهى.
وإذا علمت هذا؛ فالنصيحة المبذولة لكم هي الاجتهاد في الدعاء لهذا الميت، وأن تكلوا أمره إلى الله تعالى الذي لا تضيع عنده مثاقيل الذر، والذي هو أرحم بعبده من الأم بولدها.
وأما سؤالك عن تفسير الآية: فإن الآية فيها وجهان من التفسير، وكلاهما محتمل.
قال القاسمي في تفسيره: وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. فيه وجهان:
الأول: أن المعنى: لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين. فإن كلهم كنفس واحدة. والتعبير عنهم بالأنفس؛ للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.
والثاني: النهي عن قتل الإنسان نفسه. وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد. وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم على احتجاجه. كما رواه الإمام أحمد، وأبو داود. انتهى.
وأما قوله: عُدْوَانًا وَظُلْمًا {النساء:30}، فلا يفيد أن هناك انتحارًا جائزًا، حاشا وكلا، بل كل قتل النفس محرم، وإنما خرج بهذا القيد ما كان على سبيل الخطأ، فمن قتل نفسه خطأ، كما حدث لعامر بن الأكوع -رضي الله عنه-، فليس مؤاخذًا بذلك؛ ولذا قال الألوسي في تفسيره: وخرج بهما السهو، والغلط، والخطأ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. انتهى.
نسأل الله أن يشمل أخاك برحمته، التي وسعت كل شيء.
والله أعلم.