الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فالحكمة في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته ظاهرةٌ، بينها الحديث الوارد في القصة، وهي استخراج العلقة التي كانت في صدره الشريف، وتطهيره من حظ الشيطان فيه. ففي صحيح مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ. اهــ
قال في مرقاة المفاتيح: فَاسْتَخْرَجَ (مِنْهُ عَلَقَةً): بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: دَمًا غَلِيظًا، وَهُوَ أُمُّ الْمَفَاسِدِ وَالْمَعَاصِي فِي الْقَلْبِ (فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ)، أَيْ: نَصِيبُهُ لَوْ دَامَ مَعَكَ .. اهــ
بل تكرر شق الصدر عند المعراج؛ كما في البخاري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ ... إلخ.
وورد شق الصدر أيضا عند البعثة، أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولكل واحدة حكمة بينها أهل العلم، ومنهم الحافظ ابن حجر فقد قال في الفتح مبينا تلك الحكم:
فَالْأَوَّلُ وَقَعَ فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: فَأَخْرَجَ عَلقةُ فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، وَكَانَ هَذَا فِي زَمَنِ الطُّفُولِيَّةِ فَنَشَأَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْعِصْمَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ.
ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ الْبَعْثِ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِهِ لِيَتَلَقَّى مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ مِنَ التَّطْهِيرِ.
ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْمُنَاجَاةِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْغَسْلِ لِتَقَعَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْبَاغِ بِحُصُولِ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي شَرْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. اهـــ .
وأما لماذا لم يقع التطهير من غير شق؟ فالله تعالى أراد ذلك لحكمة هو يعلمها، ولا يسأل عما يفعل، ولم نقف على كلام لأهل العلم في بيان هذه الحكمة، ولعل الحكمة هي إظهار كرامة هذا النبي الكريم على الله تعالى، وعنايته به، فإنه لو أزال تلك العلقة بدون إرسال الملك وشق الصدر لربما خفيت على الناس هذه الكرامة، وهذا التطهير.
والله تعالى أعلم.