الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبالنظر إلى الأسئلة السابقة مع هذا السؤال للأخ السائل، فإننا ننصحه بالرفق بنفسه، والبعد عن الوسوسة والتكلف الذي يوقع صاحبه في الحرج؛ فإن دين الله يسر، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، والشرع مبناه على التخفيف والتيسير ..
هذا ما نصت عليه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة/6] وقال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة/185]، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء/ 28] وقال سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة/286].
وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. رواه البخاري. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا. رواه البخاري. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
وقد جعل أهل العلم من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) وفرعوا منها أن: الأمر إذا ضاق اتسع.
وهذا يشمل أمر التداوي، ولذلك نص المحققون من أهل العلم على أن مصلحة التداوي، مقدمة على مصلحة اجتناب النجاسة إذا عدم غيرها.
كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة، أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح، إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها. اهـ.
وقد نشر في مجلة مجمع الفقه الإسلامي: توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة، عن الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية، والتي تناولت عدة موضوعات، ومنها موضوع: الاستحالة والمواد الإضافية في الغذاء والدواء.
وقد ناقشت الجوانب الطبية والفقهية المتعلقة بهذا الموضوع، وخلصت إلى أن المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم، تنقلب إلى مواد مباحة شرعًا بإحدى طريقتين:
1- الاستحالة: ويقصد بها في الاصطلاح الفقهي: "تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها، وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات". ويعبر عنها في المصطلح العلمي الشائع، بأنها: كل تفاعل كيميائي، يحول المادة إلى مركب آخر.
2- الاستهلاك: ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة، بمادة أخرى طاهرة حلال، غالبة، مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم واللون والرائحة، حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب، ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك:
1- المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جدًا في الغذاء والدواء، كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ.
2 - الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة، يجوز استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدًا، مستهلكة في المخالط الغالب، الحلال الطاهر.
3- الأنزيمات الخنزيرية المنشأ، كالببسين، وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها، المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب. اهـ.
وبهذا، يتبين أنه مع افتراض صحة ما يظنه السائل، سواء في مادة الجيلاتين أو غيرها من المشتقات ذات الأصل الحيواني، فإن ذلك لا يعني بالضرورة حرمة استعمال الدواء المحتوي عليها، سواء من ناحية استهلاكها في الدواء إذا لم تستحل، أو من ناحية الرخصة في استعمالها مع نجاستها إذا تعسر تحصيل غيرها.
والله أعلم.