الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشكر الله لك حرصك على الخير ورغبتك فيه، بيد أن هذا الخير أوقعك في نوع من التنطع، وما ذكرته عن الأطباء المذكورين غير مسلم البتة، وعامة الناس يعرفون من أنفسهم أنهم لا يقع لهم هذا الشيء وهم موقنون جازمون به، ولم يزل المسلمون عبر العصور يستنجون ويتوضؤون بصورة عادية طبيعية، أفترى أن كل المسلمين عبر العصور كانوا غافلين عن هذا الأمر؟! هذا ما لا يستقيم في عقل بحال، وإلا فإن شعور بعض الناس بخروج تلك القطرات وتحققهم من ذلك دال دلالة قطعية على أن غيرهم ليس كذلك، إذ لو كان معظم الناس كما تدعي كذلك لشعروا به هم أيضا، فمثل هذا الطرح الذي تفضلت به طرح مرفوض عندنا ولا نشك في خطئه، والانسياق وراء هذه الظنون والتخرصات يفتح باب الوساوس على مصراعيه والشرع قد أتى بغلقه، وسد كل سبيل مفض إليه.
وإذا علمت مخالفتنا لك في أصل الفكرة التي طرحتها تبين لك أن جوابنا على السائلين بأنه لا يلزمهم البحث ولا التفتيش إنما هو عمل بالأصل ووفقا للقاعدة الكلية المقررة في الشريعة وهي أن اليقين لا يزول بالشك، وأما من تيقن يقينا جازما يستطيع أن يحلف عليه بخروج تلك القطرات فهو الذي يلزمه إعادة الاستنجاء، ثم إن كان خروجها مستمرا فحكمه حكم صاحب السلس -كما هو معلوم- وتبين لك كذلك أن النضح لدفع الوسوسة كما نطقت به السنة وقال به أهل العلم أمر حسن مندوب إليه، وفيه سد لطريق الوساوس، وليس كما توهمت من كونه خداعا للنفس، فإن اليقين لا يزيله إلا يقين مثله، وتبين لك كذلك خطأ ما تفكر فيه من ترك الجماعة ونحو ذلك، فكل هذه أفكار نابعة من محض الوسوسة، أفتراك أتقى لله وأعبد له وأحرص على صحة صلاتك من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام عبر العصور؟ هذا ما لا نظنك تقول به.
وأما ما يتعلق بكلام ابن تيمية فإننا نقول: إن العصر والنتر ونحوه مما ذكر بعض الفقهاء أنه مستحب إنما يشرع في حق من علم أن البول لا ينقطع إلا بذلك، جاء في الروض مع حاشيته لابن قاسم: ويستحب نتره ثلاثا، أي نتر ذكره ثلاثا ليستخرج بقية البول منه؛ لحديث إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا، وضعفه شيخ الإسلام وغيره، لأنه من رواية عيسى بن يزداد بن فسأة وقال النووي: اتفقوا على ضعفه، وقال ابن معين: لا يعرف هو ولا أبوه، وذكر جماعة من الأصحاب وغيرهم، ويتنحنح زاد بعضهم، ويمشي خطوات قال الشيخ: وكل ذلك بدعة، وكذا تفقده الفيئة بعد الفيئة، ولأنه من الوسواس، ولو احتاج إليه لأنه وسواس. وقال في موضع: لكن إن احتاج للنتر فعله كأن يكون إن لم يفعله أصابه سلس. اهـ
وينبغي لمن استنجى بالماء أن ينضح فرجه وسراويله قطعا للوسواس، وللمادة فإن تأثير الماء البارد في قطعها معلوم، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما من طرق أمره وفعله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح مسلم في خصال الفطرة الانتضاح، وقال أحمد فيمن ظن خروج شيء: لا تلتفت إليه حتى تيقن، والهَ عنه فإنه من الشيطان، وإنه يذهب إن شاء الله. وسئل سليمان بن يسار عن البلل يجده قال: انضح من تحت ثوبك بالماء، واله عنه. وقال القاسم بن محمد: (إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء وقل: هو الماء) ، وينبغي أن لا يتبع الأوهام، فإنه يؤدي إلى تمكن الوسوسة من القلب، وهي تضر بالدين. انتهى.
وبهذا البيان الواضح نرجو أن يكون قد زال عنك اللبس والإشكال، فلا تحكم بخروج شيء منك إلا بيقين جازم لأن الأصل عدم ذلك؛ كما هو معلوم محسوس.
والله أعلم.