الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخبر الله تعالى في كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، بهذا الاختلاف الواقع، فكان وقوع هذا الاختلاف بذاته، معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ {هود: 118-119}.
وقد أظهر الله الحق على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فاتبعه من أراد الله به النجاة، وحاد عنه من خذله الله تعالى، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستنقسم إلى ثلاث وسبعين فرقة، وذكر أن الناجية منها فرقة واحدة وهي الجماعة، فظهور تلك المذاهب والأقوال الباطلة، مما اقتضته حكمة الله تعالى، وليتميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
قال السعدي -رحمه الله- في تفسير الآية آنفة الذكر: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره. {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. {وَ} لأنه {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها. انتهى.
وإذا تقرر هذا، فعلى كل مسلم أن ينظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي فيتبعه، ويلزم منهج أهل السنة والجماعة؛ ففيه النجاة والعصمة كما قال بعض السلف: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وليحذر المذاهب الباطلة، والآراء المخالفة لمذهب أهل السنة، ففي اتباعها الضلال والغواية.
وأما المذاهب المختلفة داخل دائرة أهل السنة كالحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، فهؤلاء جميعا على خير، وكلهم قاصد للحق، لا يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هم متفقون في أصول الدين، وإنما اختلافهم في الفروع التي لم يقم عليها دليل قاطع، فكل من ترجح له قول من هؤلاء الأئمة أخذ به، وهو على خير، ومن قلده فهو كذلك على خير، ومن هنا كان اختلافهم هذا رحمة للأمة؛ لأنه اختلاف مبني على تحري الحق واتباع الدليل، لا على الهوى والتشهي، وهم كلهم إخوة متحابون، يثني بعضهم على بعض، ويترضى بعضهم عن بعض، فهذه المذاهب لا يخرج متبعها عن كونه من أهل الحق، بخلاف المختلفين في أصول الدين، المتبعين غير سبيل المؤمنين كالمعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم، وهذا الخلاف الفقهي بين الأئمة من أهل السنة من رحمة الله تعالى -كما ذكرنا- فلا ينكر على المجتهد الذي أداه اجتهاده إلى أحد الأقوال السائغة ولا على مقلده تقليدا سائغا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل، كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة. انتهى.
والحاصل أن الخلاف على نوعين، والمذاهب المنتشرة على ضربين، فما كان خارجا عن دائرة أهل السنة، فهو المذموم الذي يخشى على صاحبه من سوء الحساب يوم القيامة، وما كان داخلا في دائرة أهل السنة، فهو خلاف سائغ، أصحابه دائرون عند الله تعالى بين الأجرين للمصيب، والأجر للمخطئ المجتهد المعذور باجتهاده.
والله أعلم.