الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعبارة: (نذرتُ التبرع بكذا) وإن كانت صيغة نذر منعقد، إلا أنه بالنظر لحال السائل من خلال أسئلته السابقة، وبالنظر للتفصيل المذكور في هذا السؤال، من كونه لم يقصد التلفظ بها، وإنما خرجتْ من فمه بسبب انشغال ذهنه بهذه المسألة، وكثرة تفكيره فيها – وهذه طبيعة الموسوس عافاه الله – : فإن هذا النذر لا ينعقد؛ لأنه لم يقصد معنى العبارة، وإنما جرت على لسانه حال الذهول والغفلة، وذلك يقدح في قصده ونيته، بخلاف من ينطق بهذه العبارة على سبيل الهزل واللعب، فهذا ينعقد نذره كما ينعقد يمينه، قال القاري في مرقاة المفاتيح: أخرج عبد الرزاق عن عمر وعلي موقوفا أنهما قالا: ثلاث لا لعب فيهن: النكاح والعتاق والطلاق. وفي رواية عنهما: أربع، وزاد: النذر. ولا شك أن اليمين في معنى النذر فيقاس عليه. اهـ.
والمقصود أن جريان الكلام على اللسان مع الذهول عن معناه يقدح في صحة القصد، فلا ينعقد النذر، قال ابن نجيم في البحر الرائق: إذا كان اللغو بتفسيرهم - وهو أن يقصد اليمين مع ظن البر - ليس لها حكم اليمين، فما لم يقصده أصلا، بل هو كالنائم يجري على لسانه طلاق أو إعتاق: لا حكم له، أولى أن لا يكون له حكم اليمين. اهـ.
وهذا مبني على التفريق بين من يقصد بكلامه معناه، ولكن لا على سبيل الجد، بل على سبيل الهزل واللعب، وبين من لا يقصد بكلامه معناه أصلا، بل جرى به لسانه ذاهلا أو غافلا! فهذا لم يقصد، وأما الأول فقصد، ولكن لا على سبيل الجد، بل على سبيل الهزل، والهزل - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة إبطال التحليل : - لا يقدح في اعتبار القصد. اهـ.
وقال أيضا: ذكرنا أن القصد معتبر في العقود ومؤثر فيها، ولم نقل إن عدم القصد مؤثر فيها، والهازل ونحوه لم يوجد منهم قصد يخالف موجب العقد، ولكن لم يوجد منهم القصد إلى موجب العقد. وفرق بين عدم قصد الحكم وبين وجود قصد ضده. وهذا ظاهر، فإنه لا بد في العقود وغيرها من قصد التكلم وإرادته. فلو فرض أن الكلمة صدرت من نائم، أو ذاهل، أو قصد كلمة فجرى على لسانه بأخرى، أو سبق بها لسانه من غير قصد لها: لم يترتب على مثل هذا حكم في نفس الأمر قط. اهـ.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: قاعدة الشريعة أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا، وإعمالا وإلغاء، وهذا كعارض النسيان، والخطأ، والإكراه، والسكر، والجنون، والخوف، والحزن، والغفلة، والذهول، ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره، ويعذر بما لا يعذر به غيره؛ لعدم تجرد القصد والإرادة، ووجود الحامل على القول. ولهذا كان الصحابة يسال أحدهم الناذر: في رضا قلت ذلك أم في غضب؟ فإن كان في غضب أمره بكفارة يمين؛ لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: لو سبق لسانه بطلاق أو يمين دون قصد فهو لاغ، ولا يحنث بذلك لعدم قصده. وذلك عند جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة. وعند الحنفية يقع طلاقه وينعقد يمينه، إذ القصد بالنسبة لليمين والطلاق ليس بشرط عندهم، فالناسي والعامد والمخطئ والذاهل في ذلك سواء. اهـ.
ونرجو أن يكون ذلك آخر أسئلة الأخ السائل المتعلقة بمسائل النذر والتبرعات.
والله أعلم.