الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا تعارض في هذا؛ لأن اختيار الموت ليس فيه إضرار، ولا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وإنما هو اختيار للباقي والأفضل، وهو لقاء الله، والالتحاق بالرفيق الأعلى، والتمتع بنعيم الجنة، فقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا تَبْكِ إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ.
وقيل: كانت عامة وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة: الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم. رواه النسائي، والبيهقي، وأحمد.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كنا نتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، قالت: فلما كان مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه عرضت له بحة، فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ـ فظننا أنه كان يُخيَّر. رواه البيهقي، قال ابن كثير في البداية: وأخرجاه من حديث شعبة.
وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، قالت: فلما نزل برسول الله صلى عليه وسلم ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت، وقال: اللهم الرفيق الأعلى، فعرفت أنه الحديث الذي كان حدثناه وهو صحيح، وهو: أنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، قالت: فقلت: إذن لا يختارنا، وقالت: كانت تلك الكلمة الأخيرة التي تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرفيق الأعلى. قال ابن كثير في البداية: أخرجاه من طريق الزهري، عن عائشة.
وروى النسائي عن عائشة قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أمسح وجهه، وأدعو له بالشفاء، فقال: لا، بل الرفيق الأعلى.
وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من نبي إلا تقبض نفسه، ثم ترد إليه، فيخير بين أن ترد إليه وبين أن يلحق، فكنت أحفظ ذلك منه، وإني لمسندته على صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: قد قضى، فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع، فنظر، قالت: إذن والله لا يختارنا، فقال: مع الرفيق الأعلى في الجنة، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. قال ابن كثير: تفرد به أحمد ولم يخرجوه.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه.
فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه.
قال الشيخ ابن عثيمين: وذلك أن المؤمن يؤمن بما أعد الله للمؤمنين في الجنة من الثواب الجزيل، والعطاء العميم الواسع، فيحب ذلك، وترخص عليه الدنيا، ولا يهتم بها؛ لأنه سوف ينتقل إلى خير منها؛ فحينئذ يحب لقاء الله، ولا سيما عند الموت إذا بشر بالرضوان والرحمة، فإنه يحب لقاء الله عز وجل، ويتشوق إليه، فيحب الله لقاءه، أما الكافر ـ والعياذ بالله ـ فإنه إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، فكره الله لقاءه.
والله أعلم.