الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث لم يصح! قال الذهبي في كتاب العلو: صححه الحاكم، وأنَّى ذلك؟ والبقال قد ضعفه ابن معين، والنسائي! .اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: هذا الحديث فيه غرابة. اهـ.
وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: منكر... ولعل أصل الحديث من الإسرائيليات، وهم بعض الرواة، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الطّبري أكثره عن عبد الله بن سلام مَوْقُوفًا عليه. اهـ.
وأما مسألة ترتيب الخلق بين السماء والأرض، وأيهما خُلق أولًا، فموضع نزاع مشهور بين أهل العلم، ذكره كثير من المفسرين، قال الرازي في مفاتيح الغيب: قوله: ثم استوى إلى السماء وهي دخان ـ مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها {النازعات: 30} مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء، وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة... اهـ.
ونقل عنه أبو حيان في البحر المحيط قوله: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، يدل عليه قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ـ وهذا محال، لا يقال للشيء الذي وجد: كن، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين، وقضاؤه بأن سيحدث كذا، أي مدة كذا، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
ثم اختار أبو حيان أنه لا تعرض في الآية للترتيب، وقال: المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني. اهـ.
ونقل القرطبي، وغيره، عن قتادة القول بأن السماء قبل الأرض، وقال القرطبي: قول قتادة يخرج على وجه صحيح -إن شاء الله تعالى-، وهو أن الله تعالى خلق أولًا دخان السماء، ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك. اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض، فقال الجمهور ـ منهم مجاهد، والحسن، ونسب إلى ابن عباس: إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء؛ لقوله تعالى هنا: ثم استوى إلى السماء ـ وقوله في سورة حم السجدة: 9- 11ـ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ـ إلى أن قال: ثم استوى إلى السماء وهي دخان ـ وقال قتادة، والسدي، ومقاتل: إن خلق السماء متقدم، واحتجوا بقوله تعالى: بناها رفع سمكها فسواها ـ إلى قوله: والأرض بعد ذلك دحاها {النازعات: 27ـ 30}، وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولًا، ثم خلقت السماء، ثم دحيت الأرض، فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض ... وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض؛ لأن لفظ: بعد ذلك ـ أظهر في إفادة التأخر من قوله: ثم استوى إلى السماء ـ ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس، كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي، وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض، وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض؛ لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين. اهـ.
وها هنا ينبغي التنبيه على ضرورة التفريق بين النظريات العلمية القابلة للتغير والتطور، والإصابة والخطأ، وبين الحقائق الثابتة التي لا يصح الشك فيها بعد ثبوتها، وفي الوقت نفسه ينبغي أن نفصل بين الوهم والتخمين والتكهن وما في معناها، وبين النظريات العلمية التي تقوم على المدارسة والتجريب.
ومن ناحية أخرى ينبغي التفريق بين النصوص الشرعية وبين فهمها، فالنصوص تحمل حقًّا محضًا، ولكن أفهام العلماء لها ليست معصومة، فإذا اختلفوا، كان منهم المصيب ومنهم المخطئ، والذي لا يمكن تعارضه هو قطعي الوحي، وقطعي العقل والواقع، فلا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية وخبر شرعي قطعي، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 26538.
وراجع في قدر الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، الفتوى رقم: 190003.
والله أعلم.