الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى افتراض صحة ما ذكره هذا الصديق عن واقع دولة السويد، فإنه ينبغي مراعاة أن الأحكام التي تفيد في مجتمع معين، له حال اجتماعية واقتصادية معينة، ليس بالضرورة أن يصح تعميمها على كل المجتمعات في كل زمان، وبالتالي فإن أردنا حكما يصلح للتطبيق على جميع البشرية في كل زمان ومكان، فإن معايير دراسته وتطبيقه ستختلف تماما، ولابد فيه من اعتبار الأعم الغالب من أحوال البشر على الأرض، هذا أولا.
وثانيا: فإن كنا نحكم على الأشياء بالظاهر المجرد، وبخصوص مكان وزمان معينين، فنود لفت الانتباه إلى ضرورة دراسة واقع المجتمع السويدي من حيث وجود جريمة السرقة، ثم من حيث كفاءة وكفاية العقوبة القانونية المقررة هناك، ولن نطيل البحث هنا وسنكتفي بنقل ما نشرته جريدة السويدن بوست ونصه: بالرغم من التحذيرات المستمرة من قبل الشرطة السويدية للمواطنين بتوخي الحذر من الوقوع فريسة لألاعيب وخديعة اللصوص إلا أن ظاهرة السرقة تتزايد يوما تلو الآخر، الأمر الذي جعل تلك الظاهرة كابوسا يسيطر على الكثيرين، خاصة أن عمليات السطو طالت المنازل والمحال التجارية والمتعلقات الشخصية والدراجات من الشوارع، بل زاد الأمر لتصل عمليات السطو إلى المدارس والمؤسسات العامة والحكومية ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر حول تفاقم تلك الظاهرة وتفشيها في المجتمع السويدي بشكل يتطلب بذل كل الجهود للحد منها. اهـ
وتحت عنوان: السويد الأسوأ بين دول الشمال في حل قضايا سرقة المنازل قالت الجريدة: كان لسرقة المنازل في الآونة الأخيرة نصيب الأسد من نوعية السرقات في مناطق متعددة في السويد ولاسيما استوكهولم وبحسب إحصائية منذ عامين ذكرت أن حوادث سرقة المنازل في السويد وصلت لأكثر من 30 ألف حالة سرقة، وفي السياق نفسه تزايدت سرقات المنازل الصيفية بشكل ملحوظ تخطى السنوات الماضية ما جعل الشرطة تتخذ تدابير جديدة لإيقاف هذا النزيف من السرقات، وفي المقابل قام بعض المواطنين باتخاذ الحيطة والحذر بتغيير مفاتيح الأبواب وإضافة تأمينات أخرى على الأبواب أكثر صلابة وحماية للمنزل، وبالرغم من تلك التدابير للشرطة والمواطنين، فإن سرقات المنازل ما زالت شبحا يخيم على كثير من المناطق داخل السويد، وقد رصدت سويدن بوست حالات وشكاوي كثيرة من مواطنين سويديين في الفترة الأخيرة يشتكون من وقوعهم فريسة وقيام اللصوص بسرقة منازلهم دون تمكن الشرطة من القبض عليهم، ويؤكد الخبراء بأن ثمة قصورا في المنظومة الشرطية والتي لا تستثمر كل الموارد لمكافحة تلك الجرائم ما جعل السويد الأسوأ بين الدول الاسكندنافية في حل قضايا سرقات المنازل. انتهى.
ونشرت جريدة الكومبس مقالا عن هذا الموضوع، جاء فيه: كشف مسح أعدته منظمة التجارة السويدية Svensk Handel أن عدد السرقات وارتكاب جرائم السطو على المحلات التجارية يبلغ حوالي 2 مليون حادثة سرقة، حيث تشير تقارير الشرطة إلى أن 50 ألف عملية سرقة فقط يتم الإبلاغ عنها، أي 2 % من نسبة جرائم السرقات المرتكبة سنوياً وقال مدير الأمن في منظمة التجارة السويدية Per Geijer للتلفزيون السويدي SVT إن التجار لا يعتقدون بأن إبلاغ الشرطة عن عمليات السرقة سيحدث شيئاً، حيث يمكن ملاحظة وجود إحباط كبير بين التجار نتيجة إطلاق سراح مرتكبي جرائم السطو والسرقة وفرض غرامات مالية عليهم، إلا أن معظمهم لا يتقيد بدفع هذه الغرامات، مما أدى بالتالي إلى استسلام المجتمع لظاهرة سرقة المتاجر. انتهى.
ومجرد معرفة مثل هذه الأخبار ـ فضلا عن وجود دراسة جادة تتناول هذا الموضوع من كافة جوانبه ـ تكفي للتوقف وإعادة النظر في فقه الواقع، ومدى الملاءمة بين الجريمة وطرق مكافحتها وعقوبة فاعليها.
وأما عن قطع يد السارق في الشريعة الإسلامية فله ضوابط يقام هذا الحد في ضوئها، فليست أي سرقة تقطع اليد فيها، بل هناك نصاب معين لابد من بلوغه في قيمة المسروق، ثم لابد لهذا النصاب أن يسرق من حرز يليق بمثله، ومع هذا فلابد من خلو السارق نفسه من الشبهات التي تدرأ عنه الحد، وهناك غير ذلك من التفاصيل المهمة، التي لا يقف عليها منصف إلا ويعلم يقينا أن هذه الشريعة لم تكن لتأتي إلا من لدن حكيم عليم! ونوصي السائل بالرجوع إلى كتاب (الحدود والتعزيرات عند ابن القيم) لمؤلفه الدكتور: بكر بن عبد الله أبو زيد، فقد تناول عدة بحوث قيمة ومفيدة في هذا الموضوع، ومنها ما يتعرض لحكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده، ومنها ما يخص كشف الشبه الواردة على هذه العقوبة، ومنها كذلك ما يتعلق ببيان جملة من شروط القطع في السرقة.
ومما يحسن نقله لإجمال الجواب عن موضوع السؤال، ما ذكره الدكتور عبد الكريم زيدان في كتاب أصول الدعوة في مبحث نظام الجريمة والعقوبة، ومما قاله: أما ادعاؤهم بقسوة بعض العقوبات لما فيها من بتر وقطع بعض الأعضاء فإنهم قد فاتهم مدى ترويع السارق وقاطع الطريق للآمنين، كان عليهم أن يتصوروا فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام على رءوس أقدامه، فينقب الجدار ويكسر القفل، ويدخل على الآمنين في بيوتهم من نساء وأطفال ورجال، وبيده السلاح يزهق روح من يقاومه، فيأخذ المتاع من البيت ويخرج، وربما يستيقظ أهل الدار فيحصل القتل أو الفزع والهلع فهم لو تصوروا فظاعة جرم السارق لما أسِفوا على قطع يده الآثمة الخبيثة، ومثل هذا يقال عن قطاع الطرق الذين يتربصون بالمارَّة ويهاجمونهم ويسلبونهم أموالهم وأرواحهم، ثم يقال: إن العقوبة يجب أن يكون فيها قدر كافٍ من الرَّدع والزجر، ولا شكَّ أن قطع يد السارق أو المحارب فيه هذا المقدار، أمَّا غيرهما من العقوبات الوضعية كالحبس والغرامات فلا تملك هذا القدر من الردع، ودليل ذلك الواقع، فإن جرائم السرقة بازدياد ولم تقللها عقوبة الحبس، بل إنَّ السجن صار نزلًا لأصحاب السوابق يتردَّدون إليه ويعتبرونه مأوى أمينًا لهم، بل ومحلًّا للقائهم وتبادل خبراتهم في عالم السرقة والإجرام. اهـ.
وقال في كتابه مجموعة بحوث فقهية: أما صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، فهذا إذا كان صحيحاً، فمن الصحيح أيضاً أن يقال: إن صيرورة المقطوع عالة على المجتمع، وقد انكف إجرامه، خير له وللمجتمع من أن يبقى مجرماً سليم اليدين ينال كسبه من السحت الحرام، أما الاستعاضة عن القطع بالحبس مع التربية والتوجيه، فالرد على هذا أن الطواف على السجون وعد نزلائها يرينا أنهم بازدياد دائم، فما ردعت السجون عن جريمة السرقة إلا قليلاً، بل إن السجن أصبح مكاناً أميناً للسراق يتواجدون فيه ويلتقون ويتبادلون خبراتهم في عالم السرقة والإجرام، أما قطع اليد: فإنها كفيلة بقطع دابر السرقة أو تقليلها إلى حد كبير جداً، والتاريخ خير شاهد على ما نقول، فإن هذه العقوبة آتت أكلها وثمرتها للناس فعاشوا بأمان من السرقة والسراق. اهـ.
والله أعلم.