الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحديث المشار إليه حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم وغيرهما في الشفاعة. وظاهره أن طلب المؤمنين الشفاعة لإخوانهم، يكون قبل دخول الجنة، وبعد مرورهم على الصراط، ونجاتهم من النار مباشرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مَنَ النَّارِ، قال: فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ -على الصراط- كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاج مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مَنَ النَّارِ، فَوَ الَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً للهِ، فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ، مِنَ الْمُؤمِنِينَ للهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنا، كَانُوا يَصُومُون مَعَنَا، وَيُصَلَّونَ، وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً.. الحديث.
وإن كان قصدك ما رواه مسلم وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُدْخِلُ الله أهْلَ الجَنَّة الجَنَّةَ، يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيِمَانٍ، فَأَخْرِجُوه، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا حُمْمًا .. الحديث.
فالخطاب فيه للملائكة، وليس لأهل الجنة.
قال الكرماني في (الكواكب الدراري): "أخرجوا" من الإخراج، خطابا للملائكة. اهـ.
وعلى ذلك مشى من وقفنا على قوله من شراح صحيح البخاري، كالقسطلاني في (إرشاد الساري) والكوراني في (الكوثر الجاري) والبِرْماوي في (اللامع الصبيح) وزكريا الأنصاري (منحة الباري)
وزاد السفيري في شرح البخاري فقال: فإن قيل: من أين تعرف الملائكة العصاة الذين أدخلوا النار، وفي قلوبهم مثقال حبة من خردل من خردل حتى يخرجوهم، والإيمان أمر قلبي؟
فالجواب: أن الله تعالى يجعل له علامات يعرفون بها، كما يعلمون بأنهم من أهل التوحيد بعلامات السجود. اهـ.
وعلى افتراض أن هذا الخطاب للمؤمنين بعد دخولهم الجنة؛ فليس فيه التصريح بخروجهم من الجنة، وإنما فيه أمرهم بإخراج من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان من النار. وهذا لا يستلزم خروجهم من الجنة؛ فإن لأهل الجنة القدرة على الاطلاع على أهل النار ومخاطبتهم -فضلا عن الشفاعة فيهم عند الله تعالى- كما في قوله تعالى على لسان أحد أهل الجنة: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: 51 - 56].
قال ابن كثير: {قال هل أنتم مطلعون} أي: مشرفون. يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة. {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} ... وقال قتادة: ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وذكر لنا أن كعب الأحبار قال: في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها، فازداد شكرا. {قال تالله إن كدت لتردين} يقول المؤمن مخاطبا للكافر: والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك. {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} .. اهـ.
وعلى أية حال، فإن أهل الجنة هم كما قال الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. ونسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
والله أعلم.