الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا المال قد جمع ليصرف في بناء مسجد على الأرض المذكورة، وبما أنه قد تعذر ذلك، فينظر إن أمكن بناء مسجد بذلك المال في أرض أخرى، أو مكان آخر بحاجة إلى مسجد، فهذا هو الأولى، مراعاة لما قصده المتبرعون وجُمع المال من أجله، فإن تعذر ذلك، ولم يمكن بناء مسجد، والحاجة داعية إلى صرف المبلغ في شراء أرض مقبرة توقف لدفن موتى المسلمين، فلا حرج -إن شاء الله تعالى- في ذلك، لما ذهب إليه بعض أهل العلم من جواز صرف الوقف في غير ما حدده الواقف إن كان أصلح وأنفع.
قال مصطفى الرحيباني الحنبلي في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: قال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط واقف لما هو أصلح منه، فلو وقف على فقهاء أو صوفية واحتيج للجهاد صرف للجند. اهـ.
وفيه أيضًا: سئل الشيخ تقي الدين: فيمن بنى مسجداً لله، وأراد غيره أن يبني فوقه بيتاً وقفا له، إما لينتفع بأجرته في المسجد، أو ليسكنه لإمامه، ويرون ذلك مصلحة للإمام أو للمسجد، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب: بأنه إذا كان مصلحة للمسجد، بحيث يكون ذلك أعون على ما شرعه الله ورسوله فيه من الإمامة والجماعة، وغير ذلك مما شرع في المساجد، فإنه ينبغي فعله، كما نص على ذلك ونحوه غير واحد من الأئمة.
حتى سئل الإمام أحمد عن مسجد لاصق بالأرض فأرادوا أن يرفعوه، ويبنوا تحته سقاية، وهناك شيوخ فقالوا: نحن لا نستطيع الصعود إليه؟ فقال أحمد: ينظر ما أجمع عليه أكثرهم. ولعل ذلك أن تغيير صورة المسجد وغيره من الوقف لمصلحة راجحة جائز، إذ ليس في المساجد ما هو معين بذاته، إلا البيت المعمور، وإلا المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، إذ هي من بناء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكانت كالمنصوص عليه، بخلاف المساجد التي بناها غيرهم، فإن الأمر فيها يتبع المصلحة، ولكن المصلحة تختلف باختلاف الأعصار والأمصار. اهـ.
وبناء على هذا القول؛ فإنه لا حرج عليكم -إن شاء الله تعالى- في صرف المبلغ المذكور في شراء أرض مقبرة لدفن موتى المسلمين في تلك البلاد، إن لم يمكن صرف ذلك المبلغ في بناء مسجد، أو كان شراء المقبرة أنفع لشدة الحاجة إليه، ولا سيما مع الخشية من ضياع المال المرصود عند موت من هو تحت يده، ولأن غرض المتبرع غالبا هو قصد كثرة الثواب، فكلما عظمت المصلحة كان ذلك أقرب إلى قصده.
والله أعلم.