الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فحديث عائشة، وحديث زيد بن ثابت يحتمل أنهما قصة واحدة، ولكنها مغايرة لقصة حديث أبي ذر، كما هو ظاهر، ففي حديث أبي ذر كان ذلك في ليالي الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم بأصحابه في الليالي الوترية دون الشفعية، وقد جاء في بعض طرق الحديث - كما في مسند أحمد - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أعلمهم بعزمه على هذا القيام بعد صلاة العصر، ولفظ الرواية: لما كان العشر الأواخر اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر من يوم اثنين وعشرين، قال: «إنا قائمون الليلة -إن شاء الله-، فمن شاء منكم أن يقوم فليقم» وهي ليلة ثلاث وعشرين، فصلاها النبي صلى الله عليه وسلم جماعة بعد العتمة حتى ذهب ثلث الليل، ثم انصرف، فلما كان ليلة أربع وعشرين لم يصل شيئًا، ولم يقم، فلما كان ليلة خمس وعشرين قام بعد صلاة العصر يوم أربع وعشرين، فقال: «إنا قائمون الليلة -إن شاء الله-، يعني ليلة خمس وعشرين، فمن شاء فليقم» فصلى بالناس حتى ذهب ثلث الليل، ثم انصرف، فلما كان ليلة ست وعشرين لم يقل شيئًا، ولم يقم، فلما كان عند صلاة العصر من يوم ست وعشرين قام، فقال: «إنا قائمون -إن شاء الله-، يعني ليلة سبع وعشرين، فمن شاء أن يقوم فليقم». قال أبو ذر: فتجلدنا للقيام فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ثلثا الليل، ثم انصرف إلى قبته في المسجد، فقلت له: إن كنا لقد طمعنا يا رسول الله أن تقوم بنا حتى تصبح، فقال: «يا أبا ذر، إنك إذا صليت مع إمامك وانصرفت إذا انصرف، كتب لك قنوت ليلتك».
فظهر بهذا أن هذه القصة في حديث أبي ذر مغايرة لما في حديث عائشة، وحديث زيد بن ثابت، وأما هما فيحتمل أنهما واحدة، ويحتمل التعدد، وقد ورد مثل ذلك عن غيرهما من الصحابة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ولم أر في شيء من طرقه بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة، وابن حبان من حديث جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات، ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله ... الحديث. فإن كانت القصة واحدة احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة، فلذلك اقتصر على وصف ليلتين، وكذا ما وقع عند مسلم من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل فقام حتى كنا رهطًا، فلما أحس بنا تجوز، ثم دخل رحله .. الحديث. والظاهر أن هذا كان في قصة أخرى. اهـ.
وأما السؤال الثاني فجوابه أن اختلاف هذين الحديثين، وغيرهما - في الدلالة على المفاضلة بين صلاة التراويح جماعة في المساجد وبينها في البيوت - هو الأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة، وقد سبق لنا ذكر هذا الخلاف في عدة فتاوى، منها: الفتويان: 100169، 40359. وذكره الترمذي في سننه بعد روايته لحديث أبي ذر، فقال: اختار ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان. واختار الشافعي: أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئًا. اهـ.
وفصّل الطحاوي في (شرح معاني الآثار) القول في هذا الخلاف وبيّن أدلة كل فريق، ثم قال: فتصحيح هذين الأثرين يوجب أن حديث أبي ذر هو على أن يكتب له بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته. وحديث زيد بن ثابت يوجب أن ما فعل في بيته هو أفضل من ذلك حتى لا يتضاد هذان الأثران. اهـ.
ويؤيد ذلك تفضيل عمر للصلاة التي ينام عنها الناس في رمضان؛ وذلك لما دخل المسجد في ليلة من رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل. ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون.
وفي المسألة كلام طويل وفوائد كثيرة ذكرها الحافظ في الفتح عند شرحه لحديث عائشة.
والله أعلم.