الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن شهر رمضان، شهر عظيم، له مكانة رفيعة عند المسلمين, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر به أصحابه, وكان السلف الصالح يفرحون بقدومه، ويسألون الله تعالى أن يبلغهم إياه.
جاء في لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم"
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين؟ من أين يشبه هذا الزمان زمان؟
قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا. انتهى.
وفي فتاوى نورعلى الدرب للشيخ ابن عثيمين:
س: ما حكم استقبال رمضان والبشارة به، والتهاني به من قبل الأصدقاء والرفاق؟
ج: رمضان شهر عظيم، شهر مبارك، يفرح به المسلمون، كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يفرحون به، وكان النبي يبشر أصحابه بذلك، فإذا فرح به المسلمون واستبشروا به، وهنَّأ بعضهم بعضًا في ذلك، فلا حرج في ذلك، كما فعله السلف الصالح؛ لأنه شهر عظيم، مبارك، يُفرَح به؛ لما فيه من تكفير السيئات، وحط الخطايا، والمسابقة إلى الخيرات، وفيه أعمال صالحات أخرى. انتهى.
وأما ما يذكر من كون السلف لا يشتغلون في شهر رمضان إلا بتلاوة القرآن, فهذا محمول على الغالب، أو أنهم كانوا يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان أكثر من غيره, وثبت عن بعضهم أنه كان يقتصر على تلاوة القرآن فقط, وهذا لا ينافي أن يكون البعض منهم قد يجمع بين تلاوة القرآن، وبين غيرها من الأعمال الصالحة كتأليف الكتب النافعة, وغير ذلك من الطاعات الأخرى.
قال ابن رجب أيضا في لطائف المعارف: وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائما، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان، يفر من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري: إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت.
وقال سفيان: كان زبيد اليامي، إذا حضر رمضان أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه.
وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم، كما سبق ذكره. انتهى.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 26063
والله أعلم.