الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن أهل العلم كما اختلفوا في حدود الحجاب الواجب في حق المرأة المسلمة؛ لاختلافهم في تفسير الإدناء الوارد في سورة الأحزاب، واختلافهم في المستثنى من زينة المرأة في سورة النور، في قوله تعالى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 31]. فإنهم كذلك قد اختلفوا في ترتيب نزول الآيات المتعلقة بالحجاب في سورتي النور والأحزاب، بناء على خلافهم في ترتيب غزوتي الأحزاب، وبني المصطلق (المريسيع)، فإن غزوة الأحزاب مذكورة في سورة الأحزاب، وبنو المصطلق حصل فيها الإفك المذكور في سورة النور. والروايات في ذلك مختلفة، فرجح بعض أهل العلم الترتيب الذي ذكرته الأخت السائلة، من أن سورة الأحزاب نزلت قبل سورة النور، ورجح آخرون العكس.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرح قول السيدة عائشة -رضي الله عنها- في حديث الإفك: وكان يراني -تعني صفوان بن أمية- قبل الحجاب.
قال: أي قبل نزول آية الحجاب، وهذا يدل على قدم إسلام صفوان؛ فإن الحجاب كان في قول أبي عبيدة، وطائفة: في ذي القعدة، سنة ثلاث. وعند آخرين: فيها سنة أربع، وصححه الدمياطي. وقيل: بل كان فيها سنة خمس. وهذا مما تناقض فيه الواقدي؛ فإنه ذكر أن المريسيع كان في شعبان سنة خمس، وأن الخندق كانت في شوال منها، وأن الحجاب كان في ذي القعدة منها، مع روايته حديث عائشة هذا، وتصريحها فيه بأن قصة الإفك التي وقعت في المريسيع كانت بعد الحجاب، وسلم من هذا ابن إسحاق، فإن المريسيع عنده في شعبان، لكن سنة ست ... ومما يؤيد صحة ما وقع في هذا الحديث أن الحجاب كان قبل قصة الإفك، قول عائشة أيضا في هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عنها، وفيه: "وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، وفيه: "وطفقت أختها حمنة تحارب لها" فكل ذلك دال على أن زينب كانت حينئذ زوجته، ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله صلى الله عليه وسلم بها، فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك، وقد كنت أمليت في أوائل كتاب الوضوء، أن قصة الإفك وقعت قبل نزول الحجاب، وهو سهو، والصواب بعد نزول الحجاب، فليصلح هناك. انتهى.
وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي في تفسير سورة النور: من المجمع عليه أن هذه السورة نزلت بعد غزوة بني المصطلق، ومما يظهر من بيان القرآن نفسه، أنها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- حين رماها أهل الإفك من المنافقين بما تقوّلوا عليها به من الكذب والبهتان. وقد حصل ذلك -كما تتفق عليه جميع الروايات المعتد بها- أثناء القفول من غزوة بني المصطلق. أما الذي فيه الخلاف، فإنما هو: هل كانت غزوة بني المصطلق في سنة خمس قبل غزوة الأحزاب، أم بعدها في سنة ست؟ والذي يلزمنا التحقيق في هذا الباب، هو أن أحكام الحجاب إنما نزلت في سورتين من سور القرآن: في سورة النور هذه، وفي سورة الأحزاب التي لا خلاف أنها نزلت عند غزوة الأحزاب (الخندق). فإن كانت غزوة الأحزاب قبل غزوة بني المصطلق، فمعناه أن أحكام الحجاب في الإسلام كان بدؤها بالتعليمات التي وردت في سورة الأحزاب، وكمالُها بالأحكام التي وردت في سورة النور. وأما إذا كانت غزوة بني المصطلق قبل غزوة الأحزاب، انعكس الترتيب في نزول أحكام الحجاب، وصار بدؤها بسورة النور، وكمالها بسورة الأحزاب. وذلك ما يصعب علينا معه أن ندرك ما في أحكام الحجاب من حكمة التشريع. فبناء على ذلك، نرى أن نحقق قبل كل شيء زمن نزول هذه السورة. اهـ.
ثم فصَّل في ذلك، حتى قال: فبناء على كل ذلك، قد جزم ابن حزم وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين، بصحة رواية ابن إسحاق، ورجحانها على رواية ابن سعد، وهو الرأي الذي نراه، ونذهب إليه. وبعد أن حققنا أن سورة النور نزلت بعد سورة الأحزاب بأشهر، في النصف الآخر من سنة ست، علينا أن ننظر نظرة في الظروف التي نزلت فيها هذه السورة. انتهى.
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه (عودة الحجاب): أن اعتبار أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار، دليلا على أن وجوه المسلمات كانت مكشوفة للأجانب، مجرد وهم وظن، بدليل ترتيب آيات الحجاب حسب نزولها، وذلك لأن الأمر بالحجاب الكامل الذي جاء في قوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الآية [الأحزاب: 33] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. وقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، كل هذه الأوامر بالحجاب، إنما نزلت في سورة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وشاع الحجاب بعدها في المجتمع المسلم بعد نزولها، وقبل الأمر بغض البصر، الذي نزل في سورة النور، التي نزلت في السنة السادسة من الهجرة. انتهى.
وعلى هذا القول، فيمكن أن يقال: إن عائشة -رضي الله عنها- لما قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن، فاختمرن بها. رواه البخاري. لم ترد أنهن اختمرن، بعد أن لم يكن كذلك، وإنما أرادت مدحهن بالمبالغة في الامتثال باختيار ما هو أكثف الخمر وأثخنها، بعد نزول الآية الثانية في شأن الحجاب.
قال الحافظ ابن القطان الفاسي في كتابه: (إحكام النظر في أحكام النظر): بالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار، فزدن فيه تكثيف الخمر، قال أبو داود -وذكر إسناده إلى عائشة- قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لمَّا أنزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]؛ شققن أَكْثَفَ -أو: أكْنَف- مروطهن، فاختمرن بها. هذا إسناد حسن. وهذه مبالغة في الامتثال، فقد كان بخمرهن ما هو في الكثافة دون المتناهي. ومَن رواه "أكنف" بالنون؛ فمعناه أيضًا كذلك: أستر وأصفق، ومنه سمي الوعاء الذي يحرز فيه الشيء: كنف، والبناء الساتر: كنيفًا. انتهى.
وقريب من ذلك ما رواه أبو داود أيضا عن أم سلمة قالت: لما نزلت {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية. وصححه الألباني. ففي ذلك مدح لهن بتعمد لبس السواد.
جاء في عون المعبود: شَبَّهَتْ الْخُمُر فِي سَوَادهَا، بِالْغُرَابِ. اهـ.
ومما يحسن التنبيه عليه، أن أبا داود -رحمه الله- بوب على أثر أم سلمة فقال: باب في قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59]. وأسند قبله عن عائشة -رضي الله عنها- أنها ذكرت نساء الأنصار، فأثنت عليهن، وقالت لهن معروفا، وقالت: لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز، فشققنهن، فاتخذنه خمرا.
ثم بوب بعد ذلك: باب في قوله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31]. وأسند فيه أثر عائشة السابق، في كلام ابن القطان.
والله أعلم.