الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نستطع فهم مراد السائل، ولا العلاقة بين كلامه وبين قوله في فاتحته: صحة العلوم الغربية وخاصة الطبية!!
وعلى أية حال، فحديث حذيفة حديث مشهور، له طرق وألفاظ في الصحيحين وغيرهما، وقد ذكرنا بعضها في الفتوى رقم: 53812.
وأقرب روايات الحديث لكلام السائل، والتي جاءت مفسرة أيضا، ما رواه أحمد عن عبد الرزاق بإسناده عن حذيفة بن اليمان قال: إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فأنكر ذلك القوم عليه، فقال لهم: إني سأخبركم بما أنكرتم من ذلك، جاء الإسلام حين جاء فجاء أمر ليس كأمر الجاهلية، وكنت قد أعطيت في القرآن فهما، فكان رجال يجيئون فيسألون عن الخير فكنت أسأله عن الشر، فقلت: يا رسول الله أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر؟ فقال: نعم، قال قلت: فما العصمة يا رسول الله؟ قال: السيف، قال قلت: وهل بعد هذا السيف بقية؟ قال: نعم، تكون إمارة على أقذاء، وهدنة على دخن، قال قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم تنشأ دعاة الضلالة، فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه، وإلا فمت وأنت عاض على جذل شجرة، قال قلت: ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال... الحديث.
قال عبد الرزاق: الصدع من الرجال: الضرب، وقوله: فما العصمة منه؟ قال: السيف، كان قتادة يضعه على الردة التي كانت في زمن أبي بكر، وقوله: إمارة على أقذاء وهدنة ـ يقول: صلح، وقوله: على دخن ـ يقول: على ضغائن، قيل لعبد الرزاق: ممن التفسير؟ قال: عن قتادة. انتهى.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول: أقذاء ـ جمع القذى، والقذاء جمع القذاة، وهو ما يقع في العين من الأذى، وفي الشراب والطعام من تراب أو تبن، أو غير ذلك، والمراد به في الحديث: الفَسَاد الذي يكون في القلوب، أي: إنهم يتقون بعضهم بعضاً، ويظهرون الصلح والاتفاق: ولكن في باطنهم خلاف ذلك: هدنة على دخن ـ الهدنة والدخن، قد ذكرا، وقد جاء في الحديث تفسير الدخن، قال: لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه ـ وأصل الدَخن: أن يكون في لون الدابة كُدورة إلى سواد، ووجه الحديث: أن تكون القلوب كهذا اللون، لا يصفو بعضها لبعض. انتهى.
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: عمياء ـ أي: يعمى فيها الإنسان عن أن يرى الحق: صماء ـ أي: يصم أهلها عن أن يسمع فيها كلمة الحق أو النصيحة، قال القاضي رحمه الله: المراد بكونها عمياء صماء أن تكون بحيث لا يرى منها مخرجا، ولا يوجد دونها مستغاثا، أو أن يقع الناس فيها على غرة من غير بصيرة، فيعمون فيها ويصمون عن تأمل قول الحق واستماع النصح، أقول: ويمكن أن يكون وصف الفتنة بهما كناية عن ظلمتها، وعدم ظهور الحق فيها، وعن شدة أمرها وصلابة أهلها، وعدم التفات بعضهم إلى بعض في المشاهدة والمكانة وأمثالها. انتهى.
وقال المُظْهِري في المفاتيح: فتنةٌ عمياءُ صَمَّاءُ ـ يعني: فتنةٌ شديدة، لا يكون قتال أهل ذلك الزمان عن بصيرة، بل كما أن الأعمى لا يدري أين يذهب، فكذلك أولئك الجماعة لا يدرون بأي سبب يقاتلون، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل ـ وسُميت صَمَّاء، لأنها شديدة، يقال: صخرة صَمَّاء، أي: شديدة، ويحتمل أن يكون الصَمَّاء، لكون أهل تلك الفتنة صُمًا، أي: لا يسمعون الحق والنصيحة، بل يحاربون عن الجهل والعداوة، ولصيرورة أهلها كالأَصم من كثرة أصواتهم، ووَقْعِ السلاح والضرب. انتهى.
فظهر بهذا أن المراد بحصول العصمة باستعمال السيف، ما كان في قتال أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ للمرتدين، وأما حديث: إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ـ فرواه الترمذي، وقال: حسن صحيح ـ ورواه أبو داود وابن ماجه وأحمد مطولا، وصححه الألباني، وفيه: سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة بعامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة... الحديث.
ورواه أحمد من حديث شداد بن أوس بلفظ: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة. قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد قوي. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: علم من الخبر النبوي أن بأس الأمة بينهم واقع، وأن الهرج لا يزال إلى يوم القيامة، كما وقع في حديث شداد رفعه: إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ـ قلت: أخرجه الطبري وصححه ابن حبان. انتهى.
وقال القاري في المرقاة: إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ـ أي: فإن لم يكن في بلد يكون في بلد آخر. انتهى.
وأما حديث: ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف ـ فرواه أبو داود، وقال الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي داود: في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني، ولا يُحتج بحديثه. اهـ. وبه ضعفه الألباني والأرنؤوط.
والله أعلم.