الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كان الصواب أن ترد على قائل هذه العبارة الخبيثة، بقولك: هذا كفر، بدلا من قولك: أنت كافر ـ لأن في ذلك بيان لحكم هذه الكلمة الكفرية، دون اللجوء للحكم على عين صاحبها، الذي يحتمل أن يكون عنده مانع من موانع التكفير، كالتأول مثلا، ومعروف عند أهل السنة أن الحكم على الفعل غير الحكم على الفاعل، فليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه. وراجع في ذلك الفتويين رقم: 721، ورقم: 53835.
وتنزيل حكم الكفر على الأعيان لا يتسنى لعامة الناس، بل هذا اختصاص أهل العلم الراسخين، كما سبق أن بيناه في الفتوى رقم: 266185.
وأما السؤال عن بوء السائل بالكفر بسبب قوله لصاحبه: أنت كافر، فجوابه: أنه لا يكفر بذلك على أية حال، فإن كان صاحبه كافرا بالفعل، فالأمر واضح، وإن لم يكن كذلك، فقد قال له ما قال متأولا أو جاهلا بحقيقة حاله وعذره، وقد بوب الإمام البخاري في كتاب الأدب من صحيحه: باب: من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، ثم أردفه بباب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، وقال: وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة: إنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك، لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: قد غفرت لكم ـ ثم أسند فيه حديث جابر بن عبد الله: أن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ، أفتان أنت ـ ثلاثا ـ اقرأ: والشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى ونحوها.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: قال المهلب: معنى هذا الباب أن المتأول معذور غير مأثوم، ألا ترى أن عمر بن الخطاب قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النبي: إنه منافق، فعذر النبي عليه السلام عمر لما نسبه إلى النفاق، وهو أسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك من أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذر عليه السلام معاذ حين قال للذي خفف الصلاة وقعطها خلفه: إنه منافق، لأنه كان متأولا، فلم يكفر معاذ بذلك. اهـ.
وقال العيني في عمدة القاري: أي: هذا باب في بيان من لم ير إكفار ـ بكسر الهمزة ـ من قال ذلك، إشارة إلى قوله في الترجمة السابقة: من كفر أخاه بغير تأويل ـ يعني من قال ذلك القول حال كونه متأولا بأن ظنه كذا، أو قاله حال كونه جاهلا بحكم ما قاله، أو بحال المقول فيه... اهـ.
وقال محمد أنور شاه الكشميري في فيض الباري: هذه من التراجم المهمة جدا، ومعنى قوله: متأولا ـ أي كان عنده وجه لإكفاره، قوله: أو جاهلا ـ أي بحكم ما قال، أو بحال المقول فيه، والفتوى على أنه لا يكفر، كما أطلقه عمر في صحابي شهد بدرا، فإنه كان له عنده وجه. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: إذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك ـ ثم استدل بقصة حاطب ثم قال: وهذا في الصحيحين، وفيهما أيضا: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة. اهـ.
وبوَّب البخاري أيضا في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم: باب: ما جاء في المتأولين.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: والحاصل أن من أكفر المسلم نظر، فإن كان بغير تأويل استحق الذم، وربما كان هو الكافر، وإن كان بتأويل نظر، إن كان غير سائغ استحق الذم أيضا، ولا يصل إلى الكفر، بل يبين له وجه خطئه، ويزجر بما يليق به، ولا يلتحق بالأول عند الجمهور، وإن كان بتأويل سائغ لم يستحق الذم، بل تقام عليه الحجة حتى يرجع إلى الصواب، قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم. اهـ.
وقال الحصكفي في الدر المختار: وهل يكفر إن اعتقد المسلم كافرا؟ نعم، وإلا لا. اهـ.
وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار: قوله: إن اعتقد المسلم كافرا، نعم ـ أي يكفر إن اعتقده كافرا لا بسبب مكفر، قال في النهر: وفي الذخيرة المختار للفتوى أنه إن أراد الشتم ولا يعتقده كفرا، لا يكفر، وإن اعتقده كفرا فخاطبه بهذا بناء على اعتقاده أنه كافر يكفر؛ لأنه لما اعتقد المسلم كافرا فقد اعتقد دين الإسلام كفرا. اهـ.
والله أعلم.