الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالعامي إن استفتى عالما مجتهدا، فأفتاه، فعمل بقوله، ثم أفتاه مجتهد آخر بخلاف هذا القول: لم يلزمه نقض الأول؛ لأن الاجتهاد لا يُنقضُ بالاجتهاد. وأما إذا رجع المجتهد عن فتواه وغير اجتهاده، فهل يلزم العامي الذي قلده أن يتبعه في ذلك؟
فهذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من ينزل الاجتهاد الثاني منزلة المجتهد الآخر، فلا ينقض به، أو لأن العمل بالفتيا يجري مجرى حكم الحاكم. ومنهم من يلزمه بنقض القول الأول؛ للزوم التقليد له في الحالين، ومنهم من فرق بين النكاح وغيره من الأحكام، من باب الاحتياط للفروج والأبضاع.
قال العَلْمَوي في (المعيد في أدب المفيد والمستفيد): إذا تغير اجتهاده، وعلم المقلد من مستفتٍ وغيره برجوعه، عمل بقوله الثاني، فإن لم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به، وإن كان عمل قبل رجوعه، وجب نقضه إن خالف دليلا قاطعا، فإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، نعم: لو نكح المجتهد امرأة خالعها ثلاثا لرأيه الخلع فسخا مثلا، أو أمسك امرأة رأى أنها لم تطلق منه، ثم تغير اجتهاده ـ لزمه مفارقتها؛ احتياطا للإبضاع، وكذا لو فعل المقلد ذلك، ثم تغير اجتهاد مقلده على الصحيح. ولو قال مجتهد آخر: أخطأ بك من قلدته. فلا أثر لقوله وإن كان أعلم، إن كانت مسألة اجتهادية. اهـ.
وقال الطوفي في (مختصر الروضة): لو نكح مقلد بفتوى مجتهد، ثم تغير اجتهاده، فالظاهر: لا يلزمه فراقها، إذ عمله بالفتيا جرى مجرى حكم الحاكم. اهـ.
وقال في شرحه: قوله: «ولو نكح مقلد بفتوى مجتهد، ثم تغير اجتهاده» -يعني اجتهاد المجتهد- «فالظاهر» أنه لا يلزم، أي: لا يلزم المقلد فراق زوجته، لتغير اجتهاد المجتهد عما أفتاه به أولا، «إذ عمله بالفتيا جرى مجرى حكم الحاكم». وقد بينا أن حكم الحاكم لا ينقض، فكذا ما جرى مجراه.
وحاصل ما ذكر: أن اجتهاد المجتهد إما أن يتجرد عن الحكم والفتوى، أو لا يتجرد. فإن تجرد عنهما، وجب نقضه بالاجتهاد المخالف له بعده. وإن اقترن به حكم لم ينقض، واستؤنف العمل بالاجتهاد الثاني. وإن اقترن به الفتيا والعمل بها، احتمل أن لا ينقض ما عمل بها مطلقا في النكاح وغيره، تنزيلا للعمل بها منزلة حكم الحاكم، واحتمل أن ينقض ما سوى النكاح، كما فرض في المختصر، فرقا بينه وبين غيره بما عرف من خواصه، وتشوف الشرع إلى تكثيره. اهـ.
وقال ابن بدران في (المدخل): لو اجتهد، فتزوج بلا ولي، ثم تغير اجتهاده، حرمت عليه امرأته في الأصح. وقال القاضي، والموفق، وابن حمدان، والطوفي، والآمدي: تحرم عليه إن لم يكن حكم بصحة النكاح حاكم. أما المقلد فقال أبو الخطاب، والموفق، والطوفي: لا تحرم عليه، لتغير اجتهاد من قلده. وقال الشافعية، وابن حمدان: تحرم. اهـ.
وقال الدكتور عياض السلمي في (أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله) تحت قاعدة الاجتهادُ لا يُنقضُ بالاجتهاد: هي قاعدةٌ عامّةٌ صحيحةٌ، تُفيدُ أن المجتهدَ إذا أفتى، أو قضى قضاءً بناءً على اجتهادٍ، ثم تغيّر اجتهادُه؛ فإنه لا يَنقضُ حكمه السابق، ولا يرجعُ فيه بعدَ نفاذه، وكذلك إذا أفتى بفتوىً وعمل بها المقلِّدُ، فإن رجوعَه لا ينقُضُ فتواه التي اتّصلَ بها العملُ. ولا فرقَ في تطبيق القاعدة بين أنْ يكونَ اختلافُ الاجتهاد الثاني من المجتهد الأول، أو من غيره، بل إذا كان الاجتهاد المتأخِّرُ من غير المجتهد الأول، يكونُ أولى بعدم النقض. اهـ.
وقد سبق لنا تناول مسألة: هل يلزم العامي تقليد مذهب معين، أو له أن يقلد من شاء؟ ثم إذا أخذ بمذهب معين. فهل له أن ينتقل عنه إلى غيره، أو ليس له ذلك. وذلك في الفتوى رقم: 186941.
والله أعلم.