الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كلًّا من الإرادة الكونية والمشيئة تطلق على الأخرى؛ جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور: "فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ". وكلام أهل التفسير عن الآيتين المذكورتين يدل على ذلك؛ فقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {الحج:14} في سورة الحج جاء تعقيبًا على قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {الحج:14}. قال أهل التفسير: يفعل ما يريد بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأهل معصيته من الهوان؛ لأنه سبحانه لا يُعْجِزه شيء، ولا يعالج أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم، فما أراده فعله من غير ممانع ولا معارض. قال ابن كثير: "أَيْ: يُثِيبُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، فَلِلْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةُ بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصِّدْقِ وَبِفَضْلِهِ، وَلِلْكَافِرِينَ النَّارُ بِمَا سَبَقَ مِنْ عَدْلِهِ، لَا أَنَّ فعل الرب معلل بفعل العبيد".
ونفس المعنى جاء في تفسير الآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ من نفس السورة، فقد جاء تعقيبًا على قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. يقول الطبري: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد كرامته، لأن الخلق خلقه والأمر أمره، (لا يسئل عما يفعل وهم يسألون).
وعلى ذلك؛ فلا فرق بين الإرادة الكونية والمشيئة في الآيتين، وإن كان هناك فرق بين الإرادة والمشيئة في أصل اللغة؛ جاء في معجم الفروق اللغوية للعسكري: "الفرق بين الإرادة والمشيئة: أن الإرادة تكون لما يتراخى وقته ولما لا يتراخى، والمشيئة لما لم يتراخ وقته". وانظر الفتوى رقم: 131050.
كما أن هناك فرقًا بين الإرادة الشرعية الدينية وبين المشيئة؛ فالإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله، وأما الإرادة الكونية أو المشيئة فإنها تكون في المحبوب وغيره، فكل ما في العالم من خير وشر فقد شاءه الله وأراد إرادة كونية.
وأما السر في استعمال العبارتين في ختام الآيتين الكريمتين: فلا شك أن له حكمة أو حكمًا عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، لكننا لم نقف عليه في كلام أهل العلم، ولعل منه -والله أعلم- أنه للإطناب وتنويع العبارة -وهو أسلوب من أساليب البلاغة- لتأكيد إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
والله أعلم.