الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما الشبهة التي نقلها السائل على صفة النزول، فقد سبق أن أجبنا عليها مرارًا، فراجع فيها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 193249، 19332، 203530، 146963.
وأما ثبوت المجاز في القرآن والسنة: فمسألة خلافية من قديم، وقد سبق أن فصلنا فيها القول، وذلك في الفتويين: 16870، 128543.
والذي نريد التنبيه عليه هنا هو: أن القول بوجود المجاز في القرآن لا يستلزم تأويل الصفات الثابتة لله تعالى، كالاستواء، والنزول، وقد كتب في شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة في هذا الموضوع، وهي المعروفة بـ (الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في صفات الله)، ومما جاء فيها: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
- أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
- الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازيّ بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف. وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
- الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل الصارف عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصًّا قاطعًا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرًا فلا بد من الترجيح.
- الرابع: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته، فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورًا وهدى، وبيانًا للناس، وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علمًا، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلًا يمنع من حمله على ظاهره، إما أن يكون عقليًّا ظاهرًا، مثل قوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد: أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] يعلم المستمع: أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيًّا ظاهرًا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر.
ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي، لا يستنبطه إلا أفراد الناس، سواء كان سمعيًّا أو عقليًّا؛ لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه، ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب ألا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره؛ لأن هناك دليلًا خفيًّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره، كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض البيان وضد الهدى، وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان. فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره، أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد؟! أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟! اهـ.
ويمكنك الرجوع لبقية الرسالة لأهميتها في هذا الموضوع.
والله أعلم.