الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن القرآن قد نزل منجما، ولم ينزل دفعة واحدة؛ لحكم جليلة، منها: مراعاة أحوال العباد، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم.
قال الشاطبي في (الموافقات): فلهذا المعنى بعينه، وُضِعت العمليات على وجه لا تُخرج المكلف إلى مشقة يَملُّ بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ..
ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا، ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة. وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز، أن ابنه عبد الملك قال له: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي، وبك في الحق". قال له عمر: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة". وهذا معنى صحيح، معتبر في الاستقراء العادي .. اهـ.
فترتيب نزول الأحكام الشرعية، لم يكن للدلالة على ترتيبها في الأهمية، بل قد يكون العكس صحيحا، حيث ينزل أولا ما يمهد للأمور الأهم، التي تكون مقصودة بالأصالة لا بالتبع، كما هو الحال في الأحكام الناسخة لما قبلها.
قال الزرقاني في (مناهل العرفان): نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض، ترجع إلى سياسة الأمة، وتعهدها بما يرقيها ويمحصها، وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، كانت تعاني فترة انتقال شاق، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعادتها، خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شُوفهوا بالإسلام، من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم، فلو أخذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة، لأدى ذلك إلى نقيض المقصود، ومات الإسلام في مهده، ولم يجد أنصارا يعتنقونه، ويدافعون عنه؛ لأن الطفرة من نوع المستحيل الذي لا يطيقه الإنسان، من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل، متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، منتهزة فرصة الإلف، والمران، والأحداث الجادة عليهم، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب، حتى تمَّ الأمر، ونجح الإسلام نجاحا لم يُعرف مثلُه في سرعته، وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه ... اهـ.
وقال الشاطبي في (الموافقات): وقع معظم النسخ بالمدينة؛ لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا، للقريب العهد بالإسلام، واستئلاف لهم ... اهـ.
وعلى أية حال، فلا بد هنا من التذكير بتأخر تحريم الخمر، فقد كان بعد خمس عشرة سنة، أو أكثر من البعثة. وراجع الفتوى رقم: 21211.
وكذلك تأخر نزول آيات تحريم الربا، فقد كانت من آخر ما نزل من القرآن، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، آية الربا. رواه البخاري.
فهل يصح أن يقال: إن تحريم الخمر، والربا، من الأمور الهامشية، الفرعية التي لا ينبغي الحديث عنها؟!!
والله أعلم.