الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك أيها الأخ تواصلك مع موقعنا، وليعلم أن النصوص الشرعية لا يمكن أن تعارض حقيقة علمية واقعية ثابتة، فإن تُوهمت معارضة بينهما. فإما أن تكون تلك الحقيقة العلمية مدعاة وليس ثابتة، أو يكون النص المنسوب إلى الشرع غير ثابت، أو أن فهم النص ليس بصحيح.
قال ابن القيم:
بل فطرة الله التي فطروا على مضمونها، والعقل مقبولان
والوحي جاء مصدقا لها، فلا تلق العداوة ما هما حربان
سلمان عند موفق ومصدق والله يشهد أنهما سلمان
فإذا تعارض نص لفظ وراد والعقل حتى ليس يلتقيان
فالعقل إما فاسد، ويظنه الرائي صحيحا وهو ذو بطلان
أو أن ذاك النص ليس بثابت ما قاله المعصوم بالبرهان.
وانظر في هذا الفتوى رقم: 26538.
وبخصوص مسألة مدة أطوار خلق الجنين: فإن الحامل على القول بأن الأطوار الثلاثة: النطفة، والعلقة، والمضغة تكون في ثلاث أربعينات، هو ظاهر لفظ البخاري في حديث ابن مسعود -رضي لله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح...
فذهب جمع من العلماء إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم : (مثل ذلك) أنه منصوب على الظرفية، أي: في أربعين أخرى، مثل تلك الأربعين الأولى، وهو الذي جاء في فتوانا التي أشرت إليها برقم: 22096.
بينما سياق الإمام مسلم للحديث في صحيحه يدل على خلاف ذلك، فلفظه: عن عبد الله، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ...
فقوله: (ثم يكون في ذلك علقة) أي: في الأربعين الأولى نفسها، فيدل على أن التمثيل في قوله (مثل ذلك) ليس متعلقا بالمدة، وإنما هو متعلق بجمع الخلق، وإلى هذا ذهب بعض العلماء.
قال ابن الزملكاني: (وأما حديث البخاري فنزل على ذلك، إذ معنى يجمع في بطن أمه، أي يحكم ويتقن، ومنه رجل جميع، أي مجتمع الخلق. فهما متساويان في مسمى الإتقان، والإحكام لا في خصوصه، ثم إنه يكون مضغة في حصتها أيضا من الأربعين، محكمة الخلق، مثلما أن صورة الإنسان محكمة بعد الأربعين يوما، فنصب مثل ذلك على المصدر لا على الظرف. ونظيره في الكلام قولك: إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره، فيكون رضيعا، ثم فطيما، ثم يافعا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا، ثم هرما، ثم يتوفاه الله بعد ذلك. وذلك من باب ترتيب الإخبار عن أطواره التي ينتقل فيها مدة بقائه في الدنيا.
ومعلوم من قواعد اللغة العربية أن (ثم) تفيد الترتيب، والتراخي بين الخبر قبلها، وبين الخبر بعدها، إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنها لا تفيد ذلك، مثل قوله تعالى: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون * ثم آتينا موسى الكتاب...) . ومن المعلوم أن وصية الله لنا في القرآن جاءت بعد كتاب موسى، فـ (ثم) هنا لا تفيد ترتيب المخبر عنه في الآية. وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين) ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما مضغة (مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) مثل ذلك أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوما. اهـ. من البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن - نقلا عن : أطوار الجنين ونفخ الروح لعبد للجواد الصاوي -.
ويؤيد هذا حديث حذيفة بن أسيد الغفاري، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص" «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتصور عليها الملك» أخرجه مسلم.
ففي هذا الحديث: أن التخليق، وكتابة الملك بعد الأربعين الأولى، وليس بعد الأربعين الثالثة؛ كما فهم بعض العلماء من ظاهر رواية البخاري لحديث ابن مسعود.
فهذه خلاصة موجزة، وإلا ففي المسألة كلام طويل، وبحوث عدة للباحثين المعاصرين، يحسن الرجوع إليها، منها: بحث الدكتور الطبيب محمد البار، في كتابه: ( خلق الإنسان بين الطب والقرآن ) من ص 392 إلى ص 405.
وبحث للدكتور عبد الجواد الصاوي بعنوان: أطوار الجنين ونفخ الروح، منشور بمجلة الإعجاز العلمي.
والله أعلم.