الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن قسم الناس إلى عالم، وجاهل، ورفع أهل العلم على من عداهم درجات، ونفى التسوية بينهم وبين غيرهم فقال سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ {الزمر:9}. وقال جل اسمه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {المجادلة:11}.
قال ابن القيم في بيان مكانة العلم وأهله: وَيَكْفِي فِي شَرَفِهِ: أَنَّ فَضْلَ أَهْلِهِ عَلَى الْعِبَادِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ لَهُمْ أَجْنِحَتَهَا، وَتُظِلُّهُمْ بِهَا، وَأَنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَحَتَّى النَّمْلُ فِي جُحْرِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ. انتهى.
فإهدار مكانة العلماء، والزعم بأنهم لا يمتازون عن غيرهم، وأن الناس جميعا سواء في القدرة على معرفة الأحكام، واستنباطها من النصوص، مخالف لهذه الآيات، وقد أمر الله تعالى الجاهل بسؤال العالم، فقال سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل:43}. وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا سألوا إذا لم يعلموا.
فدل هذا بوضوح، على ضرورة الرجوع إلى كلام أهل العلم، والصدور عن رأيهم، وما يقررونه، وما انتشرت الأهواء، والبدع، وفشت المنكرات في الناس، إلا حين لبس الشيطان عليهم، وأوهمهم أنهم يستغنون بأفهامهم عن أفهام أهل العلم، والرد إليهم، فضلوا بذلك وأضلوا، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا، ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
فدل بوضوح على أن استفتاء الجاهل، وتصديره هو أصل ضلال الناس، وأن الرجوع إلى العلماء، والصدور عن أقوالهم، هو سبيل العصمة من الزيغ والانحراف.
ونصوص الكتاب والسنة فيها الناسخ، والمنسوخ؛ والمطلق، والمقيد؛ والعام، والخاص؛ والمجمل، والمبين؛ وفيها المشكل، وموهم التعارض؛ والغريب؛ والظاهر، والمؤول. ولا يميز بين هذا كله، ويحكمه على وجهه، إلا العلماء الراسخون، فهم الواسطة بين الرسول، وبين سائر الناس في تبيين ما جاء به الرسول، ولذا أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فهم الموقعون عن الله تعالى، والسفراء بينه وبين خلقه في تبيين الأحكام، وتوضيح الحلال من الحرام، ولولا مِنَّة الله على الناس بأهل العلم، لهدمت قواعد الدين، ودرست معالم الملة، فقد أقامهم الله لحراسة هذا الدين، فهم كما جاء في الحديث: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
يقول ابن القيم رحمه الله: فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به. والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه. والجاهلون يتأولونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة. فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك، لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء. انتهى.
ولو أخذنا نتتبع النصوص الواردة في وجوب الرد إلى أهل العلم، واتباع أقوالهم؛ لأنهم المبلغون عن الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، لطال ذلك جدا، وفيما ذكرناه في هذه الفتوى المبنية على الاختصار، ما يكفي لبيان ضلال هؤلاء الذين يطلقون هذه العبارات، وبعدهم عن الصواب.
والله أعلم.