الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فاعلم أولا أن الله تعالى لا يجبر عباده على الكفر والمعصية، ولا يقول بهذا إلا جاهل بربه، ولكنه سبحانه وتعالى يرسل الرسل، ويقيم الحجج والبراهين على الكافرين، ومن أصر على كفره، ورفض الحق واستكبر عنه، طبع على قلبه، وأغواه، وحال بينه وبين الهداية عقابا وجزاء وفاقا، فلم ينفع فيه نصح الناصحين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم، وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل، وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن، وليس بقبيح، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال، والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم، والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } ... اهــ.
إذا تبين هذا، فليس في الآية المذكورة دليل على الجبر الذي يقول به الجبرية، من أن الإنسان مجبور على المعصية، وأنه كالريشة في مهب الريح لا قدرة له ولا اختيار، بل إن الله تعالى مكَّن قوم نوح من الهداية، بأن أرسل إليهم الرسول، وأقام لهم الحجج، والأدلة والبراهين، ودعاهم إليها نوح عليه السلام ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلما قابلوا كل هذا بالعناد، وأصروا على الكفر، ورفضوا الهداية، عاقبهم الله تعالى بأن طبع على قلوبهم، وأوصد عليهم باب الهداية بحيث لا ينتفعون بالنصح مستقبلا، وأخبرهم نوح عليه السلام أن نصحه لن يجدي إن كان الله تعالى أراد أن يضلهم بسبب كفرهم وعنادهم.
جاء في أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري في تفسير هذه الآية: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ {هود:34} قال: أي إن نصحي لا ينفعكم، بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك، وبالغت فيه، إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم، وما أنتم عليه من عناد وكفر، ومجاحدة، ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى، بل الأولى بهم الضلالة حتى يهلكوا ضالين؛ فيشقوا في الدار الآخرة. اهـ.
وقال الشيخ السعدي: أي: إن إرادة الله غالبة، فإنه إذا أراد أن يغويكم، لردكم الحق، فلو حرصت غاية مجهودي، ونصحت لكم أتم النصح -وهو قد فعل عليه السلام- فليس ذلك بنافع لكم شيئا. اهـ.
والله أعلم.