الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشيخ الإسلام ابن تيمية كان يرد بهذا الكلام على متكلمة الجهمية، الذين يقولون: إن الجواهر جميعها أُبدعت ابتداءً لا من شيء، وحقيقة قولهم: إنّ الله لا يُحدث شيئاً من شيء، لا جوهراً ولا عرضاً، والجواهر كلّها أُحدثت لا من شيء، والأعراض كذلك، فلا يُخرج حيّاً من ميت، ولا ميتاً من حيّ... !!!
فرد عليهم شيخ الإسلام بأن القدرة التي تبهر العقول هي أن يقلب حقائق الموجودات فيحيل الأول ويُفنيه ويُلاشيه، ويُحدث شيئاً آخر... فهو سبحانه إذا جعل الأبيض أسود، أعدم ذلك البياض، وجعل موضعه السواد... ويخلق الضدّ من ضدّه؛ كما جعل من الشجر الأخضر ناراً، فإذا حك الأخضر بالأخضر، سخن ما يسخنه بالحركة، حتى ينقلب نفس الأخضر فيصير ناراً، وعلى قول الجهمية ومن وافقهم: ما جعل فيه ناراً، بل تلك الجواهر باقية بعينها، وأُحْدِثَ فيها عرضٌ لم يكن!
ثم قال ـ رحمه الله ـ: وخلقُ الشيءِ من غير جنسه أبلغ في قدرة القادر الخالق سبحانه وتعالى، كما وصف نفسه بذلك في قوله: {قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْر إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب}. ولهذا قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرَاً مِنْ طِين فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ في قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ}... وأيضاً: فكون الشيء مخلوقاً من مادّة وعنصر، أبلغ في العبودية من كونه خُلق لا من شيء... إلى آخر ما قال.
وأما النقل الأخير الذي ذكره السائل فكان في معرض رده على المتكلمين الذين يقولون بأن المادّة باقية بعينها فلم يخلق عندهم إلا الأعراض، وعلى الفلاسفة الذين يقولون إن المادّة قديمة أزليّة باقية بعينها ولم يخلق عندهم إلا الصور المجرّدة!
فاستدل الشيخ بالآية المذكورة ثم قال: وعندهم ما زال جواهر الإنسان شيئاً، وذلك الشيء باق، وإنّما حدث أعراض لتلك الأشياء... اهـ.
وبهذا يتضح أن شيخ الإسلام لم يُرِد من كلامه هذا أن الخلق من غير مادة يخرج عن قدرة الله تعالى، أو أن الخلق من عدم كالخلق من غير رب!! وإنما أراد شيخ الإسلام الرد على المتكلمين والفلاسفة في ما زعموه من أزلية المادة وما ترتب على ذلك من القول بأن الجواهر كلها أُبدعت ابتداءً لا من شيء، ولذلك قال عنهم: هم لا يتصوّرون ما يشهدونه؛ من حدوث هذه الجواهر في جواهرَ أُخَر من مادة، ثمّ يدّعون أنّ الجواهر جميعها أُبدعت ابتداءً لا من شيء، وهم لم يعرفوا قطّ جوهراً أُحدث لا من شيء، كما لم يعرفوا عرضاً أُحدِث لا في محلّ... والمشهود المعلوم للناس إنّما هو إحداثه لما يحدثه من غيره، لا إحداثاً من غير مادة، ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئَاً}، ولم يقل: خلقتك لا من شيء، وقال تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}، ولم يقل: خلق كل دابة لا من شيء، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} اهـ.
وأما تسلسل الحوادث في الماضي فهو في النوع لا في الأعيان والأفراد، وراجع في تفصيل ذلك الفتويين التالية أرقامهما: 135105، 190011.
والله أعلم.