الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإيمان ليس شعبة واحدة، وإنما هو شعب كثيرة، وكذلك الكفر والنفاق شعب كثيرة، منها الظاهر ومنها الباطن، وقد يجتمع في الشخص الواحد نفاق وإيمان باجتماع شعبهما، ولذلك كان الإيمان عند أهل السنة يتبعض، ويزيد وينقص، بخلاف أهل البدع من الطرفين، فهم يقولون إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمقصود هنا أن منشأ النزاع في الأسماء والأحكام في الإيمان والإسلام، أنهم لما ظنوا أنه لا يتبعض، قال أولئك: فإذا فعل ذنبا زال بعضه فيزول كله فيخلد في النار، فقالت الجهمية والمرجئة: قد علمنا أنه ليس يخلد في النار وأنه ليس كافرا مرتدا؛ بل هو من المسلمين، وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان ليس معه بعض الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم لا يتبعض ... اهـ. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 12517.
وإذا تقرر هذا فمن يحب عليا ـ رضي الله عنه ـ فقد حصل شعبة من شعب الإيمان، ومن يبغضه فقد حصل شعبة من شعب النفاق، ولذلك لما ذكر الذهبي هذا الحديث في (سير أعلام النبلاء) قال: معناه: أن حب علي من الإيمان، وبغضه من النفاق، فالإيمان ذو شعب، وكذلك النفاق يتشعب، فلا يقول عاقل: إن مجرد حبه يصير الرجل به مؤمنا مطلقا، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحد منافقا خالصا، فمن أحبه وأبغض أبا بكر، كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر، فبغضهما ضلال ونفاق، وحبهما هدى وإيمان. اهـ.
ثم إن هذه الشعبة من الإيمان إذا حصلها المرء فقد ينقضها بما يزيل أصل الإيمان وينقضه من أساسه، كهؤلاء الذين ذكرهم السائل في آخر سؤاله ممن أحرقهم علي ـ رضي الله عنه.
وفي المقابل فإن الخوارج المبغضين لعلي ـ رضي الله عنه ـ قد وقعوا ببغضهم إياه في شعبة من شعب النفاق، ولكنه لا يزيل أصل إيمانهم ولا ينقض إسلامهم، ويتضح هذا المعنى بتقييد الحديث محل السؤال بما إذا كان بغضهم إياه ليس لإيمانه ونصرته للدين ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لأمور أخرى ظنوها مخالفة لأمر الله تعالى، كما ذكر ذلك أهل العلم في شرح حديث فضيلة الأنصار: لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله. قال القرطبي في (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم): حب الأنصار من حيث كانوا أنصار الدين ومظهريه، وباذلين أموالهم وأنفسهم في إعزازه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإعلاء كلمته، دلالة قاطعة على صحة إيمان من كان كذلك، وصحة محبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبغضهم لذلك دلالة قاطعة على النفاق. وكذلك القول في حب علي وبغضه ـ رضي الله عنه وعنهم أجمعين ـ فمن أحبه لسابقته في الإسلام، وقدمه في الإيمان، وغنائه فيه، وذبه عنه وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمكانته منه صلى الله عليه وآله وسلم وقرابته ومصاهرته، وعلمه وفضائله، كان ذلك منه دليلا قاطعا على صحة إيمانه ويقينه ومحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أبغضه لشيء من ذلك، كان على العكس .. هذا المعنى جار في أعيان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كالخلفاء، والعشرة، والمهاجرين ـ بل وفي كل الصحابة؛ إذ كل واحد منهم له سابقة وغناء في الدين، وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم له محض النفاق، وقد دل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما خرجه البزار في أصحابه كلهم: فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم. اهـ.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): الحصر في مثل هذا الحديث ليس حقيقيا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضه من حيث النصرة ... فإن قيل: فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقا، وإن صدق وأقر؟ فالجواب أن ظاهر اللفظ يقتضيه لكنه غير مراد فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق ... ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك اهـ.
وأخيرا ننبه على أن الحديث محل السؤال قد رواه مسلم في صحيحه عن ـ علي رضي الله عنه ـ، بلفظ: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.
والله أعلم.