الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعنى أن الدنيا دار سنن: أي: أن الله تعالى خلقها، وأجرى قدره فيها على طريقة مطردة، لا تعرف المحاباة، وربط فيها الأسباب بمسبباتها, فلا يكاد يتخلف أحدهما عن الآخر إلا نادرًا, وفي أحوال خاصة؛ قال سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } [الأحزاب: 38]، وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 62]، وقال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } [فاطر: 43]، وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الفتح: 23]. قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): الله له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها، بل يجريها على أسبابها وما خلقت له؛ فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شرعت له، بل هذه سنته شرعا وأمرا، وتلك سنته قضاء وقدرا. اهـ.
وقال الشيخ ابن باديس في مجالس تفسيره: لله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم: يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل, وسعادة وشقاء, وشدة ورخاء، وكل محاولة لصدها عن غايتها - وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور الزحيلي في (التفسير الوسيط): هذه السّنن الإلهية تقرر قوانين محددة، وتتصف بأنها دائمة خالدة، وثابتة غير متغيرة، ومستمرة غير متحولة، تشمل الأولين والآخرين. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه (السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية): وحيث إن سنة الله تعالى المتعلقة بأفعال البشر وسلوكهم هي: طريقته المتبعة في معاملته للبشر, وما يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة، فهذا يعني أن معنى (السنة) هو: معنى (القانون العام) من حيث خضوع أفعال البشر وسلوكهم إلى أحكام هذه (السنة) التي يمكن تسميتها بالقانون العام. اهـ.
وإذا عرف هذا؛ فترك الأخذ بالأسباب مع القدرة عليها، يختلف حكمه باختلاف مرتبته، فالأخذ بها واجب في الواجبات، مستحب في المستحبات، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 44824.
وأما الالتفات إليها بمعنى اعتماد القلب ورجائه: فهذا نوع شرك ينافي التوكل.
وأما عدم اعتبارها بمعنى إنكار كونها أسبابًا: فهذا قدح في الشرع, ونقص في العقل معًا؛ قال ابن القيم في (مدارج السالكين): هذا ـ يعني قطع الأسباب عن أن تكون أسبابا والإعراض عنها ـ: زندقة، وكفر, ومحال؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبب في حصول الهداية والإيمان، والأعمال الصالحة سبب لحصول النجاة ودخول الجنة، والكفر سبب لدخول النار، والأسباب المشاهدة أسباب لمسبباته. اهـ.
ومن العبارات الجامعة في هذا المعنى: ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن العلماء أنهم قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. اهـ.
وقال ابن القيم في (المدارج): الالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابا بالكلية قدح في الشرع والحكمة، والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابا - نقصان في العقل، وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع في تفرقها، والقيام بها هو: محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد, والشرع, والقدر, والحكمة. اهـ.
والله أعلم.