الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الفعل هو ما يسميه أهل العلم: التمثلَ، أو الاستشهادَ، أو الاقتباسَ، وهو كما يعرفه السيوطي رحمه الله في "الإتقان في علوم القرآن": تضمين الشعرِ، أو النثرِ بعضَ القرآن لا على أنه منه؛ بألا يقال فيه: قال الله تعالى ونحوه؛ فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباساً. اهـ.
وقال رحمه الله في منظومته "عقود الجمان":
مِنْ ذَاكَ الاِقْتِبَاسُ أَنْ يُضَمِّنَا مِنَ الْقُرَانِ وَالْحَدِيثِ مَا عَنَى
عَلَى طَرِيقٍ لَيْسَ مِنْهُ مِثْلُ مَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ: وَلَمَّا دَهَمَا
قُلْنَا جَمِيعًا شَاهَتِ الْوُجُوهُ وَقَبُحَ اللُّكْعُ وَمَنْ يَرْجُوهُ
وقال ابن غنيم النفراوي في شرح رسالة ابن أبي زيد: وحقيقته أن يذكر شيء من القرآن، أو الحديث في كلام لا بلفظ: قال الله، أو رسوله، بل على وجهٍ يتوهم معه أنه غير قرآن، أو حديث، ويغتفر فيه التغيير اليسير. اهـ.
وقد اختلف فيه متأخرو الفقهاء ما بين مشدد، ومبيح، وساكت، والراجح فيه الجواز في غير المزح، ولغو الحديث، وما لم يكن مما ينسبه الله إلى نفسه؛ وذلك لورود فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض السلف، وقد فعله كثير من أهل العلم متقدميهم، ومتأخريهم.
فمن ذلك ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد في المسند ومالكٌ في الموطأ وغيرهم: عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما دخل خيبر: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَسَاءَ صباحُ المنذَرين. قالها ثلاثاً.
وهي من قول الله جل وعلا: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ {الصافات: 176، 177}.
قال ابن عبد البر في التمهيد: وفي هذا الحديث إباحة الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن، ويجمل. اهـ.
وفي الحديث: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. وهو من قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ {الأنفال:73}.
وقد روي أن كتابَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى كان فيه: فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لأُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. وهو من قوله تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ {يس:70}.
وروى ابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهما عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أنه قال في خطبته يوم أسلم الأمرَ إلى معاوية رضي الله عنه: وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، إما كان حقاً لي تركته لمعاوية، إرادة صلاح هذه الأمة، وحقن دمائهم، أو يكون حقاً كان لامرئ أحق به مني، ففعلت ذلك، وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {الأنبياء:111}. واللفظ للطبراني.
وأخرج الخطيب البغدادي وغيره أن الإمام مالكاً كان إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم، وأنه يريد المغالطة، يقول: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ {الأنعام:9}. نقله السيوطي في رسالة الاقتباس.
وقد وهِم الإمام السيوطي -رحمه الله- في نظمه "عقود الجمان"، فنسب المنع إلى الإمام مالكٍ؛ إذ قال:
قُلْتُ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ فَمَالِكٌ مُشَدِّدٌ فِي الْمَنْعِ
ولعله نقله عن بعض فقهاء المالكية في عصره قبل تحرير قوله، لأنه ردَّ نسبة ذلك إلى مالكٍ في موضع آخر، وحقق تجويز مالكٍ إياه، لما قدمنا عنه، وحقق ذلك أيضاً متأخرو المالكية كالزرقاني في شرح الموطأ، وابن غنيم في شرح الرسالة، كما جوزه متقدموهم كابن عبد البر، والشيخ داود وغيرهما، وفعله الإمام ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة الرسالة.
قال السيوطي في "الإتقان": وقد اشتهر عن المالكية (أي في زمنه) تحريمه، وتشديد النكير على فاعله، وأما أهل مذهبنا -يعني الشافعية- فلم يتعرض له المتقدمون، ولا أكثر المتأخرين مع شيوع الاقتباس في أعصارهم، واستعمال الشعراء له قديمًا وحديثاً. وقد تعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ عز الدين بن عبد السلام فأجازه، واستدل له بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصلاة وغيرها: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" إلى آخره، وقوله: "اللهم فالقَ الإصباح وجاعلَ الليلِ سكناً والشمسِ والقمرِ حسباناً، اقض عني الدين وأغنني من الفقر".
وفي سياق كلام لأبي بكر: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. وفي آخر حديث لابن عمر: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة". انتهى.
ثم قال السيوطي رحمه الله: وهذا كله إنما يدل على جوازه في مقام الموعظة، والثناء، والدعاء، وفي النثر، لا دلالة فيه على جوازه في الشعر، وبينهما فرق؛ فإن القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه، وفي النثر جائز. واستعمله أيضاً في النثر القاضي عياضٌ في مواضعَ من خطبة "الشفا".
وقال الشرف إسماعيل بن المقرئ اليمني صاحب مختصر الروضة في شرح بديعيته: ما كان منه في الخطب، والمواعظ، ومدحه صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه ولو في النظم، فهو مقبول، وغيره مردود.
قال السيوطي: وفي شرح بديعية ابن حجة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول -أي المقبول-: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود. والثاني -أي المباح-: ما كان في القول والرسائل، والقصص. والثالث -أي المردود-: على ضربين: أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه -ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقَّع على مطالعةٍ فيها شكاية عماله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}. والآخر: تضمين آية في معنى هزلٍ، ونعوذ بالله من ذلك، كقوله: أوحى إِلَى عُشَّاقِهِ طَرْفَهُ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ. وَرِدْفُهُ يَنْطِقُ مِنْ خَلْفِهِ لِمِثْلِ ذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ. قال السيوطي: وهذا التقسيم حسنٌ جداً، وبه أقول. انتهى.
وقال -رحمه الله- في حاشيته على تفسير البيضاوي، عند قول البيضاوي في مقدمة الكتاب: (الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا): هو من الاقتباس، وقد أجمع على جوازه في النثر، واستعمله العلماء قاطبة في خطبهم، وإنشاءاتهم.
وقد ردَّ على من منعه، فقال: فإن قلت: نرى في هذا الزمان قوماً يستنكرون ذلك، ويقولون: ألفاظ القرآن لا تستعمل في غيره. قلت: إنّما استنكره هؤلاء جهلاً منهم بالنصوص والنقول، فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلّم في غير ما حديثٍ، والصحابة، والتابعون، والعلماء قديما وحديثا، ونصوا في كتب الفقه على جوازه. فإن قلت: لعلّ المالكية يشددون في ذلك ما لا يشدده أهل مذهبكم. قلت: قد استعمله إمامهم الإمام مالك بن أنس، ونصّ على جوازه غير واحد، منهم ابن عبد البر، والقاضي عياض، واستعمله في خطبة "الشفا"، وابن المنير، واستعمله في "الانتصاف"، وفي خطبه المنبرية. ونص الشيخ داود الباقلي في تأليفٍ له على أن المالكية، والشافعية اتفقوا على جوازه. فإن قلت: سمعنا الإنكار ممن يزعم أنه متمذهب بمذهب أبي حنيفة رحمه الله. قلت: هو غير عالم بمذهبه، فلو رأى "شرح مجمع البحرين" لابن الساعاتي -خصوصاً في باب الاستسقاء- لظلت عنقه لجوازه خاضعةً، ولاعترف بجهله حيث أنكر ما قامت عليه الأدلة الساطعة. ولأجل ذلك ألّفت في المسألة كتابا حافلاً فيه جمل من النصوص والنقول، فليطلبه من أراد تحقيق ذلك.
قال: واعلم أن الاقتباس أنواع؛ لأنه تارة يورد فيه نظم القرآن بنصه، كما في هذا المطلع، وتارة يزاد فيه الكلمة ونحوها، أو ينقص منه، أو يغير بعض عبارته وإعرابه. انتهى كلامه.
وقال العلامة الألوسي في "روح المعاني": والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام، وكلام كثير من الصحابة، والأئمة، والتابعين، وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس. اهـ.
وقد ذهب بعض أهل العلم، كالنووي، وابن السبكي، إلى جوازه في النثر، وكراهته في الشعر، كما قال السيوطي في "عقود الجمان":
وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَنَا صَرَاحَةْ لَكِنَّ يَحْيَى النَّوَوِيْ أَبَاحَهْ
فِي النَّثْرِ وَعْظًا دُونَ نَظْمٍ مُطْلَقَا وَالشَّرَفُ الْمُقْرِئُ فِيهِ حَقَّقَا
جَوَازَهُ فِي الزُّهْدِ وَالْوَعْظِ وَفِي مَدْحِ النَّبِيْ وَلَوْ بِنَظْمٍ فَاقْتُفِيْ
قال السيوطي في رسالة الاقتباس: وعلة التفرقة بين النثر، والشعر ظاهرة، فإن القرآن الكريم لما نُزِّه عن كونه شعراً ناسب أن يتنزه عن تضمينه الشعرُ، بخلاف النثر.
هذا مجموع المنقول عندنا في هذه المسألة، وحاصله الاتفاق على جواز ضرب الأمثال من القرآن واقتباسه في النثر، والاختلاف في اقتباسه في الشعر؛ فالأكثرون جوزوه -أي في الشعر- واستعملوه منهم الرافعي، وأما النووي، والبهاء بن السبكي فكرهاه ورعاً لا تحريماً، ولم أقف على نقل بتحريمه لأحد من الشافعية، ومحل ذلك كله في غير الهزل والخلاعة والمجون. اهـ.
قلنا: ورسالة السيوطي التي أشار إليها هو والألوسيُّ اسمُها: "رَفْعُ الْبَاسِ وَكَشْفُ الِالْتِبَاسِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالِاقْتِبَاسِ"، جمع فيها الأدلة من السنة، ونقل فعل السلف من الصحابة، والتابعين، والأئمة، وهي مطبوعة ضمن كتاب "الحاوي لفتاوي السيوطي"، فيمكنك الرجوعُ إليها إن أحببت.
والله أعلم.