الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد سبق في الفتوى رقم: 6707 بيان الأدلة على علو الله سبحانه، وأنه فوق عرشه.
كما قد نقلنا نصوص الأئمة في مسألة الاستواء، في الفتوى رقم: 66332.
وأما رفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء، فإنما نقصد بذلك جهة العلو، لا جهة بعينها من الجهات الست.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه، مباينا لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات -كما يحيط بها إذا كانت في قبضته- أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها، ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها..."
وقال أيضا: "وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين: أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريا، والله فوقه، وجب أن يكون الله كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري ... من جميع الجهات. وكل من هذين الاعتقادين خطأ، وضلال؛ فإن الله مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري .... لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها؛ كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا-، بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك، في الفلك. وإنها عنده أصغر من الحمصة، والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا. فإذا كانت الحمصة، أو الفلفلة، بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان، أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك، وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله -ولله المثل الأعلى-أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}. وكذلك " اعتقادهم الثاني " : وهو أن ما كان فلكا، فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست، خطأ باتفاق أهل العقل، الذين يعلمون الهيئة؛ وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان. فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل، والشرع وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو، لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات .... سواء كان محيطا بالفلك كري الشكل، أو كان فوقه من غير أن يكون كريا، سواء كان الخالق -سبحانه- محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا دون الجهة الأخرى. فعلى أي تقدير فرض، كان كل من مقدمتي السؤال باطلة، وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك" اهـ بتصرف.
ولمزيد الفائدة يمكنك مراجعة الرسالة العرشية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى.
وأما بخصوص تفسير الاستواء بالاستيلاء، فلا يصح في حقه سبحانه.
فقد نقل ابن القيم عن الحسين بن أحمد قوله: أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، لا يكون عند العرب إلا بعد أن يكون ثم مغالب يغالبه، فإذا غلبه وقهره قيل قد استولى عليه، فلما لم يكن مع الله مغالب، لم يكن معنى استوائه على عرشه استيلاء وغلبة، وصح أن استواءه عليه هو علوه وارتفاعه عليه بلا حد، ولا كيف، ولا تشبيه. اهـ.
وروى الحسن بن محمد الطبري، عن أبي عبد الله نفطويه النحوي قال: أخبرني أبو سليمان، قال: كنا عند ابن الأعرابي، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما معنى: (الرحمن على العرش استوى)؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر، فقال الرجل: إنما معنى استوى استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك، العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبر. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود. وانظر الفتوى رقم: 52741
ولا يلزم نحو ذلك في القهر؛ إذ لا يستلزم وجود مغالب، بل الموجودات كلها مقهورة تحت تسخيره، وخاضعة له سبحانه بأصل الخلقة، إيجادا وإعداما، فهو سبحانه قد قهر الموجودات، والمعدومات أيضا، مع أنه لا يتصور منازعتها لله تعالى.
جاء في تفسير السراج المنير: أمّا قهره للمعدوم، فبالتكوين والإيجاد، وأمّا قهره للموجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة، ومن الوجود إلى العدم أخرى، ويقهر النور بالظلمة، والظلمة بالنور، والنهار بالليل، والليل بالنهار، إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصنوف الممكنات. اهـ.
والله أعلم.