الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فينبغي التفريق بين الحكم بالكفر، وبين تطبيق ما ينبني على ذلك من أحكام، كإقامة حد الردة، فالأول ينظر فيه أهل العلم الراسخون القادرون على تنزيل هذا الحكم الشّرعي على المعيّنين، بمعرفة أصول أهل السنة في هذه المسألة الدقيقة ككيفية إقامة الحجة وشروط التكفير وموانعه! وأما الثاني: فلا بد فيه من وجود ولاية شرعية من السلطان أو نوابه من القضاة الشرعيين، وقد تناول الدكتور محمد الوهيبي في رسالته العلمية: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف مسألة كيفية قيام الحجة على المعين، فقال: أكد العلماء على ضرورة بلوغ الحجة للمعين وثبوتها عنده وتمكنه من معرفتها، وكل ذلك لا يتم إلا بوجود من يحسن إقامة الحجة. اهـ.
ثم أورد بعض النقول عن أهل العلم في ذلك، كابن تيمية وابن حزم ومحمد بن عبد الوهاب وسليمان بن سحمان، ثم قال: إذاً خلاصة ما سبق أن يقال: لا بد من قيام حجة صحيحة تنفي عمن تقام عليه أي شبهة أو تأويل، وبذلك ندرك عظم المسئولية الملقاة على عاتق العلماء والدعاة ممن يحسن إقامة الحجة، ليقيموا الحجة على الخلق ويزيلوا الشبه عنهم. اهـ.
وقال الدكتور صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: عند أهل السنة والجماعة لا يتساهل في أمر التكفير، بل يحذر منه ويخوف منه، وأيضا لا يمنعون تكفير المعين مطلقا، بل من أتى بقول كفري يخرجه من الملة، أو فعل كفري يخرجه من الملة، أو اعتقاد كفري يخرجه من الملة، أو شك وارتياب يخرجه من الملة، فإنه بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع يحكم عليه العالم أو القاضي بما يجب من الردة، ومن القتل بعد الاستتابة في أغلب الأحوال. اهـ.
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: أما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي ـ وذكر فيه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، وقال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ـ وهو حديث حسن، ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له، أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله؛ كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك... ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور ناصر العقل في شرحه: قوله: إلا بأمر تجوز معه الشهادة، كلام مبهم، يقصد به أنك لا تشهد على المعين إلا بأمر تستطيع أن تشهد به، كما تشهد عند القاضي في أمر من الأمور الثبوتية، بمعنى أنك لو استشهدت على شخص لم تره ولم تسمعه لكن سمعت عنه ما قيل فيه، فهل تشهد عليه بمجرد قول الناس عند القاضي؟ الجواب: لا تشهد، وكذا مسألة تكفير المعين، فمهما قال الناس فيه ومهما نقل عنه يجب ألا تشهد إلا بعلم، والعلم لا يتم إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، أن تقيم الحجة على الشخص، وتسمع منه، أو ترى منه، ثم تتأكد من أنه ليس متأولاً، وأنه ليس بمكره، وأنه ليس بجاهل في أمور تستوضحها بنفسك، وما لم تستوضح بنفسك فلا تأخذ بأحكام الناس وأقوال الناس في المعين، إلا ما كان عن طريق الاستفاضة عند أهل العلم الموثوقين الراسخين الذين يقيمون الحجة... وقد ذكرت في قواعد سابقة أن تكفير المعين ليس في مقدورنا، بل ليس من حق كل شخص أو كل طالب علم، ولا يتم ذلك إلا ممن يملكون الاجتهاد وإقامة الحجة والقدرة العلمية ثم الرسوخ والاستعداد وتوافر الشروط في الحكم على المعين، فالحكم على المعين لا يأتي بمجرد اجتهاد فرد أو فردين أو ثلاثة في مسائل معينة إلا في أمور محدودة يعرفها أهل العلم، أما فيما يتعلق بما يحدث بين الناس الآن وقبل الآن فأكثره مما لا تتوافر فيه الشروط، وأكثره من القول بالظن والرجم بالغيب. اهـ.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 186245.
وتبين مما سبق أن تكفير المعين مرجعه إلى أهل العلم، ولا ينحصر في القاضي؛ كما ذكرت.
والله أعلم.