الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالظاهر من مذهب الحنفية أن الإحرام بالحج، أو العمرة لا ينعقد إلا بالنية مع التلبية، أو ذكر لله تعالى يقوم مقامها، خلافا لأبي يوسف القائل بانعقاد الإحرام بمجرد النية فقط، وفاقا للجمهور.
جاء في بدائع الصنائع للكاساني: لا خلاف في أنه إذا نوى، وقرن النية بقول، وفعل هو من خصائص الإحرام، أو دلائله، أنه يصير محرما بأن لبى ناويا به الحج، إن أراد به الإفراد بالحج. أو العمرة، إن أراد الإفراد بالعمرة، أو العمرة والحج، إن أراد القران؛ لأن التلبية من خصائص الإحرام، وسواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أو لا؛ لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان، لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه. فيقول: اللهم إني أريد كذا فيسره لي، وتقبله مني؛ لما ذكرنا في بيان سنن الحج، وذكرنا التلبية المسنونة، ولو ذكر مكان التلبية التهليل، أو التسبيح، أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظيم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما. وهذا على أصل أبي حنيفة، ومحمد في باب الصلاة أنه يصير شارعا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف ههنا، وفرق بين الحج، والصلاة.... إلى أن قال: هذا الذي ذكرنا في أن الإحرام لا يثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول، وفعل هو من خصائص الإحرام، أو دلائله، ظاهر مذهب أصحابنا. وروي عن أبي يوسف أنه يصير محرما بمجرد النية، وبه أخذ الشافعي. انتهى.
وفي العناية على شرح الهداية للبابرتي: قال: (وإذا لبى فقد أحرم) من أراد الإحرام إذا نوى، ولبى، فقد أحرم، ولا يصير شارعا لا بمجرد التلبية، ولا بمجرد النية. أما الأول؛ فلأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية. إلا أن القدوري لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله: اللهم إني أريد الحج. وأما الثاني فلأنه عقد على الأداء، أي على أداء عبادة تشتمل على أركان مختلفة، وكل ما كان كذلك، فلا بد للشروع فيه من ذكر يقصد به التعظيم سواء كان تلبية أو غيرها، عربيا أو غيره في المشهور كما ذكرنا، أو ما يقوم مقام الذكر كتقليد الهدي، فإنه يقوم مقامه في حصول المقصود، وهو إظهار الإجابة للدعوة. انتهى.
وفي رد المحتار لابن عابدين: والحاصل أن اقتران النية بخصوص التلبية ليس بشرط، بل هو السنة، وإنما الشرط اقترانها بأي ذكر كان، وإذا لبى فلا بد أن تكون باللسان. قال في اللباب: فلو ذكرها بقلبه لم يعتد بها. انتهى.
وبناء على ما سبق، فإذا كنت لم تتحقق من الإتيان بالتلبية، أو ما يقوم مقامها ـ من ذكر لله تعالى ـ وقت الإحرام بالعمرة، فإنك لم تدخل في العمرة أصلا على القول المشهور عند الحنفية.
لكن إذا كنت قد أحرمت بالنية قبل دخول مكة، وقرنتها بالتلبية، فقد انعقد إحرامك عند الحنفية، ويلزمك عندهم دم لمجاوزة الميقات من غير إحرام. جاء في كتاب الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود الموصلي الحنفي (المتوفى: 683هـ) : والمواقيت: للعراقيين: ذات عرق، وللشاميين الجحفة، وللمدنيين ذو الحليفة، وللنجديين قرن، ولليمنيين يلملم، وإن قدم الإحرام عليها فهو أفضل، ولا يجوز للآفاقي أن يتجاوزها إلا محرما إذا أراد دخول مكة، فإن جاوزها الآفاقي بغير إحرام فعليه شاة، فإن عاد فأحرم منه سقط الدم، وإن أحرم بحجة أو عمرة ثم عاد إليه ملبيا، سقط أيضا. انتهى.
وفي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي: ولو جاوز الميقات بغير إحرام، فأحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين، أو وقف بعرفة، أو كان إحرامه بالحج ثم عاد إلى الميقات: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه لما اتصل الإحرام بأفعال الحج، تأكد عليه الدم، فلا يسقط بالعود. انتهى.
وما لزمك من دم يجزئ فيه ذبح شاة بالحرم، وتوزع على الفقراء من أهله، وبإمكانك توكيل من ينوب عنك في ذلك.
ومذهب الجمهور أن الإحرام ينعقد بمجرد النية، كما سبق في الفتوى رقم: 207721
ولا يلزمك تقليد مذهب الحنفية، فالعامي لا يجب عليه تقليد مذهب بعينه.
جاء في تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي الشافعي: وحاصل المعتمد من ذلك أنه يجوز تقليد كل من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة، ودُون حتى عرفت شروطه، وسائر معتبراته. انتهى.
وراجع المزيد من كلام أهل العلم في هذه المسألة، وذلك في الفتوى رقم: 31408.
والله أعلم.