الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن عقوق الوالدين، وتوعدهما بالدعاء عليهما من أكبر الكبائر، فحق الوالدين عظيم عظيم، فقد قرن الله جل جلاله الأمر بتوحيده بالإحسان إليهما في خمسة مواضع من كتابه.
فمهما بدر منهما من إساءة، فإن ذلك لا يعدل قطرة في بحر جودهما، وإحسانهما إلى ولدهما، فلا يحل بحال مقابلة إساءتهما بالإساءة.
ومما يدل على هذا الأصل من كتاب الله تعالى ما ذكره الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}، حيث قال: ولم يقل: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما" بل قال: {فَلا تُطِعْهُمَا} أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه؛ ولهذا قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما -وهما بحالة الكفر والمعاصي- فلا تتبعهما. انتهى
ولا يخفى قبح توعد الأم وتهديدها بالدعاء عليها، فقد قال الله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا {الإسراء:23}.
قال البغوي -رحمه الله-: يريد لا تقل لهما ما فيه أدنى تبرم، والأف والتف: وسخ الأظفار، ويقال لكل ما يستثقل ويضجر منه، أف له. اهـ كلامه.
فكيف بالتهديد والوعيد؟!
وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (وقل لهما قولًا كريمًا) أي لينًا لطيفًا، مثل: يا أبتاه، ويا أمّاه من غير أن يسميهما، ويكنيهما، قال عطاء: وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: وقل لهما قولًا كريمًا، ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. اهـ.
فالواجب على الولد في معاملة والديه عند إساءتهما إليه التحلي بالصبر الجميل، ومقابلة الإساءة بالإحسان إليهما، فإن ذلك من تمام برهما، ومن أسباب الأجر العظيم؛ فقد قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.
وعلى الولد استحلال والديه من عقوقهما؛ لأنه ظلم لهما، وفي حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ، وَلَا دِرْهَمٌ, إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.
وتقصير الآباء في تنشئة الأبناء على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال ليس عذرًا في ترك واجب الاستحلال، والاستسماح، فإن الخطأ لا يبرر بالخطأ.
والله أعلم.