الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
ففي الجملة: لا يجوز نقل الكلام بين الناس على وجه يؤدي إلى الإفساد بينهم، فهذه هي النميمة التي جاء الشرع بتحريمها، وورد الوعيد الشديد في حق فاعلها؛ وللمزيد راجع الفتوى رقم: 6710.
وإذا رجي أن تتحقق بذلك مصلحة شرعية، فلا حرج في نقل الكلام للغرض الصحيح، كما بين ذلك أهل العلم، وقد أوضحنا كلامهم في هذا، في الفتوى رقم: 133679.
ومحور هذه المشكلة هو ما ذكر من تصرفات سيئة صدرت من بنت أخيك الأكبر، فإن كانت هنالك ريبة فعلًا في تصرفاتها، فكان ينبغي تحري الحكمة في معالجة الأمر، وإخبار من يمكنه إصلاحها من غير أن تتلقى الألسن الموضوع، ويحصل الخوض فيه بالحق والباطل، وهو ما ترتبت عليه مفاسد عظيمة بوقوع القطيعة بين الأهل والأحبة، وهذا ما يحبه الشيطان، ويسعى من أجله؛ قال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا {الإسراء:53}، وروى مسلم في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة؛ يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته - قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت. قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه. فيحتفي به إبليس لما قام به من أمر التفريق بين الأحبة.
والتهاجر محرم إلا إذا كان له ما يسوغه شرعًا، كما سبق أن بينا في الفتوى رقم: 25074.
ويعظم النكير، ويتأكد التحريم بوقوع التهاجر بين ذوي القرابة والرحم؛ لما في ذلك من قطيعة الرحم، وقد أوضحنا نصوص الوعيد في حق قاطع الرحم في الفتوى رقم: 13912.
فننصح الجميع بتقوى الله تبارك وتعالى، والسعي في الإصلاح، ففي ذلك خير عظيم، وأفضل المتهاجرين من يبدأ بالسلام؛ وراجع في فضل الإصلاح الفتوى رقم: 106360.
ومما نرشد إليه هنا انتداب العقلاء، والفضلاء من الأقارب، والمعارف، والأصدقاء ليعملوا على رأب الصدع.
ومن جهتك أنت، جاهد نفسك في صلة أهلك وإن قطعوك، والإحسان إليهم وإن أساؤوا إليك، فتنال الفضل عليهم، ويعظم قدرك عند رب العالمين؛ قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت34 : 35}.
قال ابن كثير : أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ؛ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى, قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ .. اهـ.
وروى مسلم عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم، ويسيؤون إليّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليّ، فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك».
وننبه في الختام إلى أمرين:
الأول: أن الأصل في المسلم السلامة، فلا يجوز اتهامه زورًا وبهتانًا؛ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ {الحجرات:12}.
الثاني: أن الاتهام بالزنا قذف، وهو من أكبر الكبائر، ورد فيه الذم، والوعيد الشديد في الدنيا والآخرة، وسبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 17640، والفتوى رقم: 93577.
والله أعلم.