الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن سب الصحابة منكر عظيم، وأخطر ما يكون إذا كان في شأن أفضل الصحابة رفيقي وصاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهريه وخليفتيه الراشدين اللذين زكاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالاقتداء بهما فقال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر. رواه الترمذي وابن حبان والحاكم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
ومن هنا شدد العلماء في سب الخلفاء الراشدين وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا عائشة التي برأها الله، فقَالَ الإمام الأوْزَاعِيُّ رحمه الله: مَنْ شَتَمَ أبا بَكْرٍ الصِدِّيْقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْ دِيْنِهِ، وأبَاحَ دَمَه.
وقَالَ المَرْوَزِيُّ: سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ الإمَامَ أحْمَدَ: عَمَّنْ شَتَمَ أبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمَانَ، وعَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ـ فَقَالَ: ما أَرَاهُ على الإسْلامِ.
وأما سب معاوية بن أبي سفيان وعمرو العاص رضي الله عنهما: فمعصية وخبيئة سوء، يعاقب من سبهما أو انتقصهما، قال الخلال في السنة: أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل بن زياد حدثهم، قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من أصحاب رسول الله إلا له داخلة سوء، قال رسول الله: خير الناس قرني. انتهى.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى: عَمَّنْ يَلْعَنُ مُعَاوِيَةَ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فأجاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَنْ لَعَنَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ: كَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعُثْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَوْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، أَوْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ؟ أَوْ مَا دُونَ الْقَتْلِ؟ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ـ وَاللَّعْنَةُ أَعْظَمُ مِنْ السَّبِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ـ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنَ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ. انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في لقاءات الباب المفتوح: ما حكم من يسب الصحابي معاوية بن أبي سفيان من أهل السنة؟ فأجاب: لا شك أنه فعل معصية، وأنه آثم، معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ من خلفاء المسلمين، وأحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ائتمنه على كتابة الوحي وهو من أعظم ما يكون، فهو أمين، ولا يجوز أن نسبه لما جرى بينه وبين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لأن هذا جرى عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة ينال أجراً أو أجرين، إن أخطأ فأجراً، وإن أحسن فأجرين، ونحن لا نشك في أن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الصواب من معاوية، لكننا لا نسب معاوية لما حصل، لأنه عن اجتهاد، ولهذا قال في العقيدة: ونسكت عن حرب الصحابة، فالذي جرى بينهم كان اجتهاداً مجرداً، وأصل هذا ـ أعني سب معاوية كما يزعم الساب ـ انتصار لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب يقول: إني لأرجو أن أكون أنا و معاوية من الذين قال الله فيهم: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ {الحجر:47 } يعني: في الجنة، ثم إن معاوية رضي الله عنه كان خليفة بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحسن بن علي رضي الله عنه وهو أفضل من أخيه الحسين، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين متقاتلين من المسلمين ـ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية جعلها إصلاحاً، وهذا نوع من الإقرار لمعاوية رضي الله عنه، ولا يخفى على أحد من المسلمين أن الحسن أفضل من الحسين رضي الله عنهما جميعاً، وأن ما حصل من القتال فعلي فيه أقرب إلى الصواب، لكننا نحب أيضاً معاوية ونرى أنه خليفة ذو خلافة شرعية، وأن ما جرى منه فهو على سبيل الاجتهاد الذي لم يكن صواباً، وكل إنسان يخطئ ويصيب. انتهى.
وللفائدة يرجى مراجعة الفتاوى التالية أرقامها: 28835، 36106، 108703.
والله أعلم.