الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمحبة المعصية ـ مع عدم فعلها ـ إن كانت هذه المحبة لا تستقر في القلب بمعنى أن صاحبها ينازعها ويجاهد نفسه في تركها، وفي تحقيق محبة الله، فهو على خير وجهاد، لا على إثم ونفاق.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الفوائد: وَقد كتبُوا إِلَى عمر بن الْخطاب يسألونه عَن هَذِه المسالة أَيّهمَا أفضل: رجل لم تخطر لَهُ الشَّهَوَات وَلم تمر بِبَالِهِ، أَو رجل نازعته إِلَيْهَا نَفسه فَتَركهَا لله؟ فَكتب عمر: أَن الَّذِي تشْتَهي نَفسه الْمعاصِي وَيَتْرُكهَا لله عز وَجل من الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مغفرة وَأجر عَظِيم... إلى أن قال: صَاحب خواطر الشَّهَوَات والمعاصي كلما مرت بِهِ فَرغب عَنْهَا إِلَى ضدها ازْدَادَ محبَّة لضدها ورغبة فِيهِ وطلبا لَهُ وحرصا عَلَيْهِ، فَمَا ابتلى الله سُبْحَانَهُ عَبده الْمُؤمن بمحبة الشَّهَوَات والمعاصي وميل نَفسه إِلَيْهَا إِلَّا ليسوقه بهَا إِلَى محبَّة مَا هُوَ أفضل مِنْهَا وَخير لَهُ وأنفع وأدوم، وليجاهد نَفسه على تَركهَا لَهُ سُبْحَانَهُ، فتورثه تِلْكَ المجاهدة الْوُصُول إِلَى المحبوب الْأَعْلَى، فَكلما نازعته نَفسه إِلَى تِلْكَ الشَّهَوَات واشتدت إِرَادَته لَهَا وشوقه إِلَيْهَا صرف ذَلِك الشوق والإرادة والمحبة إِلَى النَّوْع العالي الدَّائِم، فَكَانَ طلبه لَهُ أَشد وحرصه عَلَيْهِ أتم. انتهى.
وأما إذا استقرت محبة المعصية في قلب العبد، وتلذذت نفسه بذكرها، ولم يجاهد نفسه في دفعها، فهو عاص، ومحبته غير جائزة، قال الهيتمي ـ رحمه الله ـ في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر في معرض كلامه عن تجديد التوبة عن المعصية كلما ذكرها صاحبها بعد التوبة، وهل يجب تجديدها؟ وقال إمام الحرمين: لا يجب ذلك لكنه يستحب، قال الأذرعي في توسطه: ويشبه أن يقال إن كان حين تذكره للذنب تنفر نفسه فما اختاره الإمام ظاهر، وإن كانت لا تنفر منه، وتلتذ بذكره فذلك معصية جديدة تجب التوبة منها. انتهى.
وقال الغزالي ـ رحمه الله ـ في إحياء علوم الدين: فالبغض في الله واجب، ومحب المعصية والراضي بها عاص. انتهى.
وقد يطلق على هذا النوع من العمل أنه نفاق أصغر، وذلك باعتبار أن صاحبه أظهر علانية صالحة ـ وهي ترك المعصية ـ وأبطن سريرة تخالفها، وهي التلذذ بالمعصية في باطنه، قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في جامع العلوم والحكم: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أنْ يُظهر الإنسانُ علانيةً صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك.... ثم قال: حاصلُ الأمرِ أنَّ النفاق الأصغر كُلَّه يرجِع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن، وقال الحسن أيضاً: من النفاق اختلافُ القلب واللسان واختلاف السِّرِّ والعلانية، واختلاف الدخول والخروج، وقال طائفة من السَّلف: خشوعُ النفاق أنْ ترى الجسدَ خاشعاً، والقلب ليس بخاشع. انتهى.
والله أعلم.