الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ {التوبة: 6} يستفاد منه أن عدم بلوغ الحجة للمشرك لا يمنع من إطلاق اسم الشرك وأحكامه عليه، وهكذا في كل كافر أصلي لا يحكم له بالإسلام وإن كان كفره عن جهل وخطأ، من غير عناد ولا مكابرة.
وتكفير المعين من هؤلاء الكفار الأصليين لا إشكال فيه، وأما الحكم بالردة على من ثبت له حكم الإسلام بسبب إتيانه بناقض من نواقض الإيمان، فهذا يقال في بعض صوره: ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، لاحتمال طروء عارض من العوارض المانعة من الحكم بكفره من جهل أو إكراه، أو تأويل، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 721، ورقم: 65312.
وقال الدكتور منذر السقار في كتاب التكفير وضوابطه: الراسخون من علماء الإسلام لا يعتبرون الوقوع في الكفر مسوغاً للحكم بكفر المسلم قبل تبين حاله، فإنهم يفرقون بين وصف الفعل بالكفر ووسم فاعله بهذا الحكم، فإن ما ورد في النصوص من إطلاق حكم التكفير على فاعلي بعض الموبقات، لا يعني بالضرورة شمول الحكم كل من تلبس بهذه الموبقة، والأصل في هذه العاصمة من قاصمة التكفير قصة الرجل الذي جلده النبي صلى الله عليه وسلم في الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر بجلده فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ـ فهذا رجل ينهى رسول الله عن لعنه، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شاربي الخمر، كما في حديث أنس بن مالك: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له ـ فشارب الخمر ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بينما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعن هذا المعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه لعن في الخمر عشرة... ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين، الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به ـ ثم يقيس شيخ الإسلام التكفير على اللعن فيقول: وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط، وانتفاء موانع، ويقول رحمه الله: فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم ـ بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ـ لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين، ويقول: فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معيَّن من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو لثبوت مانع... اهـ.
ثم تابع الدكتور النقول عن أهل العلم في هذه المسألة، ولمزيد الفائدة عن هذا الموضوع يمكن الرجوع لكتاب: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف، للدكتور محمد الوهيبي، ففيه مبحث عن الاحتياط في تكفير المعين، تناول فيه:
1ـ النصوص المحذرة من إطلاق التكفير على المعين دون بينة وتطبيقات السلف لذلك. 2ـ نصوص تدل على تكفير المعين إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع وتطبيقات السلف لذلك.والله أعلم.