الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالدين يعلي من شأن العقل، ويرفع من مكانته، وذلك بجعله مناطًا للتكليف، والمخاطبة بالأحكام الشرعية، فدوره: تلقي الأدلة والنصوص الشرعية، وإنزالها منازلها، لا التحكم فيها، ولا نصب نفسه حاكمًا عليها، وقد سبق لنا بيان ذلك، وما يتعلق به في الفتوى رقم: 182599 وما أحيل عليه فيها.
وهذا وإن كان معناه أن غير العاقل لا يكلف، إلا أنه لا يعني أن العقل مقدم على الشرع، وحاكم عليه، واعتبر في ذلك ببقية شروط التكليف، كالحياة، والبلوغ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: قولهم: إن العقل شرط في التكليف، والخطاب، كالوجود، والحياة، كلام صحيح، والشرط له مدخل في حصول المشروط به، كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها. اهـ.
وقال في موضع آخر: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم، كما قال بعضهم: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول، ومعاني كلامه. وقال بعضهم: العقل متول، ولى الرسول، ثم عزل نفسه؛ لأن العقل دل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. والعقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة. وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي، ودل غيره عليه، وبين له أنه عالم مفت، ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب على المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض، قدحت في الأصل الذي به علمت بأنه مفت، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال، كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده، واتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت، يجب عليك تقليده. هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم على ما يخالفه من استدلاله العقلي، أولى من تقديم العامي قول المفتي على قوله الذي يخالفه. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 61378، 212086.
والله أعلم.