الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما أمر الدنيا وبلاؤها فمشترك بين أهل الكفر والإيمان، بل هو في حق المؤمنين أظهر وأكثر، فعن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؟ قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر؛ حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه، وصححه البوصيري، والألباني.
وأما أمر الآخرة، فإنما يستحق الكافر العقاب فيها على كسبه، وما جنته يداه، من الكفر، وسيئ الأعمال، وهذا إنما يلام عليه المرء نفسه، والله تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا ـ إلى أن قال : ـ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم.
وأقسام الناس بالنسبة للدنيا والآخرة قد ورد فيها حديث، عن خريم بن فاتك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس: موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة، والأعمال: موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبع مائة ضعف، فالموجبتان: من مات مسلمًا مؤمنًا لا يشرك بالله شيئًا فوجبت له الجنة، ومن مات كافرًا وجبت له النار، ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له بسبع مائة ضعف. رواه أحمد، والطبراني، وابن حبان، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني ثقات. اهـ. وصححه الألباني.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: عموم قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} أي: في الدنيا، مخصوص بمن لم يقدر الله له ذلك؛ لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} فعلى هذا التقييد يحمل ذلك المطلق، وكذا يقيد مطلق قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [الشورى: 20] وبهذا يندفع إشكال من قال: قد يوجد بعض الكفار مقترًا عليه في الدنيا، غير موسع عليه من المال، أو من الصحة، أو من طول العمر، بل قد يوجد من هو منحوس الحظ من جميع ذلك، كمن قيل في حقه: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الحج: 11] اهـ. وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 175719.
والله أعلم.