الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالدين ما شرع الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات والمعاملات، والأخلاق، والحدود.
فكل ما شرع الله فهو دين يجب الإيمان به، والسعي في تطبيقه وإقامته، كما قال سبحانه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: من الآية 13].
وقد امتن الله على عباده أن أكمل لهم الدين، ورضي لهم الإسلام، وجعل رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي خاتمة الرسالات، وشريعته هي الشريعة المهيمنة الناسخة لما قبلها، الصالحة إلى قيام الساعة، فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً [المائدة: من الآية 3]. وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَق [المائدة: من الآية 48]. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: من الآية 7]، وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65].
والخطاب في هذه الآيات موجه لكل من وصله القرآن وآمن به، لا يختص بالذين كانوا في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو لهم، ولمن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، فلا إيمان لمن لم يحكم شريعته بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وهذا العلماني إن آمن بأن هذه الأحكام كانت ديناً وشريعة ملزمة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أصحابه، قيل له: فما الذي نسخ هذا الأمر وغيره، وأعفى الناس اليوم من اتباعه؟ أفي ذلك آية من كتاب الله، أو سنة من سنن رسول الله؟! وهيهات للعلماني أن يجد شيئاً من ذلك.
ثم يقال له: إن صح ما تقول من أن هذه الأحكام لا تناسب هذا العصر، ولا تصلح له لزمك أمور شنيعة، منها:
1- أن الدين والشريعة ناقصة تحتاج إلى ما يكملها، وهذا تكذيب لقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
2- أن الناس في هذه الأعصار محتاجون إلى رسول آخر، يشرع لهم ما يناسب عصرهم، وهذا تكذيب لقوله تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40].
3- اتهام الله تعالى أنه شرع أحكاماً يعلم أو لا يعلم أنها لا تناسب الناس في هذه الأعصار، وهذا كفر بالله الحكيم العليم، فهو أعلم بعباده: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
4- اتهام الله تعالى بأنه ترك الخلق في هذه الأزمان دون أن يشرع لهم ما يناسبهم، فلم ينزل إليهم كتاباً، ولم يرسل لهم رسولاً، وألزمهم بالإيمان بشريعة لم تشرع لهم، وترك في أيديهم كتاباً يتحدث عن غيرهم، ويعالج قضايا لا تخصهم. فتعالى الله عن هذا الظلم الذي لا يليق به، أم يظن هؤلاء الأفاكون أن الله ترك الناس لأهوائهم، وأسند إليهم مهمة التشريع والتحليل والتحريم؟ وهذا ما يصرح به بعضهم، قائلين: إن البشرية قد شبت عن الطوق، ولم تعد بحاجة إلى وصاية من الله، تعالى عن قولهم علواً كبيراً. فماذا يريد هؤلاء بقولهم: إن أحكام الرجم والقطع، وغيرها قد تغيرت، وانتهى أمد تطبيقها، ومضى وقت صلاحيتها؟
وبأي شريعة سيحكمون على الزاني والسارق والقاتل؟
لقد تركوا حكم الله، وذهبوا يبحثون في قانون نابليون، ومن سبقه، ومن لحق به من البشر الضالين العاجزين القاصرين! فأي ضلال فوق هذا الضلال، وأي كفر بعد هذا الكفر؟! أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
والحاصل أن الطرق كلها منحصرة في طريقين:
* طريق من يؤمن بالله وبرسوله وبكتابه، وأهل هذا الطريق يرون صلاحية القرآن والسنة، وصلاحية أحكامهما إلى قيام الساعة، ويعلمون أن ما حكم الله به هو العدل والرحمة والمصلحة، وأنه لا أحسن من الله حكماً، ولا أعظم من رسوله بياناً.
* وطريق من يكفر بالله وبعلمه وحكمته، ويكفر بدينه وبشريعته، وأهل هذا الطريق قد يتظاهرون بالإسلام مكراً وكيداً لأهله، وهم في حقيقة أنفسهم لا يعترضون على حد الرجم والسرقة والقتل فحسب، وإنما يعترضون على كل حكم يتصل بحياة الناس ومعاشهم، فيكفرون بما شرعه الله من تحريم الربا، والخمر والميسر، وإيجاب العفة والطهارة، والسلامة من الإثم، والفجور والخنا، وغير ذلك مما لا يناسب أهواءهم، ولا يرضى شهواتهم.
ومما ينبغي تسجيله هنا: أن البشرية في عصورها المتأخرة جربت المناهج الأرضية، والأفكار البشرية، فلم تجن من ذلك سوى الظلم والخراب والدمار والتخلف والتأخر، وانتشار الأمراض والأوبئة، وكثرة المجرمين والزناة والبغاة، وهم ينتقلون من قانون إلى قانون، ومن تشريع إلى تشريع، ظلمات بعضها فوق بعض: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40]، ولا خلاص لهم، ولا أمن ولا طمأنينة، ولا غنى ولا رفعة إلا فيما شرعه الله تعالى ورضيه وأمر به: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].
والله أعلم.