الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق بيان اختلاف الروايات عن السلف بشأن كفر الحجاج بن يوسف، وذلك في الفتوى: 112543.
وممن روي عنهم تكفير الحجاج: الشعبي، وقد تقدم معنى الجبت والطاغوت في الفتوى: 49669.
ولعل القول بتكفير الحجاج كان بسبب ما روي عنه من عبارات، ظاهرها الكفر، قال ابن كثير في البداية والنهاية: من الطامات أيضا ما رواه أبو داود: ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، ثنا جرير، وحدثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن المغيرة، عن بزيع بن خالد الضبي، قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة أبدا، وإن وجدت قوما يجاهدونك لأجاهدنك معهم ـ زاد إسحاق: فقاتل في الجماجم حتى قتل. انتهى.
فإن صح هذا عنه، فظاهره كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وجاء في البداية والنهاية أيضا: وقال الأصمعي: ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا أبو حفص الثقفي قال: خطب الحجاج يوما فأقبل عن يمينه فقال: ألا إن الحجاج كافر، ثم أطرق، فقال: إن الحجاج كافر، ثم أطرق فأقبل عن يساره، فقال: ألا إن الحجاج كافر، فعل ذلك مرارا، ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، ثنا ابن شوذب، عن مالك بن دينار، قال: بينما الحجاج يخطبنا يوما إذ قال: الحجاج كافر، قلنا: ما له؟ أي شيء يريد؟ قال: الحجاج كافر بيوم الأربعاء والبغلة الشهباء. انتهى.
فهذه الروايات ونحوها تتطرق إليها الاحتمالات من حيث الثبوت، ثم من حيث التأويل، ثم من حيث بقاؤه عليها، وعدم توبته منها، كما قال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر -كما قدمنا- فإن كان قد تاب منها، وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدا لوجوه، وربما حرَّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أنَّه كَانَ يَتَدَيَّنُ بِتَرْكِ الْمُسْكِرِ، وَكَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء مِنَ التَّلَطُّخِ بِالْفُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَرِّعًا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ. فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَحَقَائِقِ الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها. انتهى.
والأصل أن من ثبت إسلامه بيقين، فلا يخرج منه إلا بيقين مثله، ولذا رأينا التوقف في أمر تكفيره، كما سبق في الفتوى المتقدمة.
والله أعلم.