الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يصلح ما بينك وبين أمك، وأن يوفقك لبرها، ويرزقك عطفها وحنانها، وأن يؤلف بين قلوبكما على خير.
فقبل أن ندخل في الجواب، نحب أن نذكر الأخت السائلة بأصل مهم تجعله نصب عينيها في تعاملها مع أمها؛ ألا وهو أن الشارع جعل لكل من الوالدين والأولاد حقوقا على الآخر، وواجبات بالأصالة، لا على سبيل المبادلة أو المعاوضة. فمن حقوق البنوة: العدل، والرحمة، وحسن التربية. ومن حقوق الأمومة أو الأبوة: الإحسان، والطاعة، والبر بغض النظر عن حالة أي منهما. فلم يجعل الله أداء أحد الجانبين لما عليه من الحق والوجبات، شرطا لأداء الآخر، بل كل منهما حق وواجب مستقل؛ ولذلك لا يحل للبنت أن تقصر في القيام بحقوق الأم وواجباتها نحوها مهما قصّرت الأم في حقوق البنت وواجباتها نحوها، ومهما بلغت الكراهية في قلبها نحوها بسبب السنوات الطويلة من التقصير والإقصاء، بل عليها أن تجاهد نفسها أن تبر أمها، وتحسن إليها مهما قوبلت بالإساءة؛ لأن حق الأم عظيم، وهذا الأصل أصلناه، وبيناه في فتاوى كثيرة سابقة منها الفتاوى أرقام: 138250 ، 21916 ، 67588 ، 8173.
واعلمي أنك قد ارتكبت عقوقا من أبلغ العقوق وأسوئه برفعك يدك على أمك، فهذا من أبشع صور العقوق، ولا يجوز بحال من الأحوال؛ يقول الله تعالى:{ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء:23}، فما بالك بالضرب!
أما هل يعتبر ترك الكلام معها من العقوق؟ فهذا بحسب الحال والمقام: فإذا كان يؤذيها، فهو من العقوق، وكذلك إذا أدى ترك الكلام إلى القطيعة والهجر، فهذا أيضا من العقوق، كما بيناه في الفتاوى أرقام: 49048 ، 40427 ، 17754 .
وبالمقابل فإن كثيرا من المشاكل تنشأ عن الكلام الذي لا موجب له، أو لم يكن من خير الكلام؛ ولذلك قال جل وعلا : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا {الإسراء:53} وقال تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114}. وقال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.
وبناء عليه: فعلى الأخت السائلة وزن الكلام قبل التكلم، فما كان من الخير والقول الكريم والكلمة الطيبة فلتقله، ولا ينبغي أن يحملها سوء المعاملة من الوالدة، أو كرهها لها على تركه؛ لأنه من البرّ الواجب، ومن أسباب إصلاح ما فسد غالبا؛ لأن هذه المشاكل لم تنشأ عن الكلمة الطيبة، ولكن عن مقابلة السيئة بسيئة مثلها، والكلمة القاسية بمثلها والتصعيد، وما صحبه من رفع للصوت، واليد، وإساءة الأدب. وهذا من العقوق المحرم، وحل هذه المشاكل لا يكون بترك القول الكريم، بل بأن تتجمل الأخت السائلة بالحلم والصبر، وأن تحمل نفسها على مقابلة السيئة بالحسنة، والكلمة القاسية بالطيبة، أو الإعراض بحلم، وأن لا تزيد على القول الكريم؛ فإن ذلك يوقد فتيل الأزمة، ويوقظ ذكريات الماضي السيئة. وللوقوف على مجموعة الضوابط الشرعية للحوار مع الوالدين انظري الفتاوى أرقام: 50556 ، 200023 ، 5925 . فإن مراعاتها جديرة بأن تحميك من الوقوع في العقوق بسبب الحوار.
نعم، إذا بلغت العلاقة من السوء مبلغا لا يحتمل أي كلمة طيبة، أو قول كريم، بل لا يزيد ذلك الوضع إلا تأزما لشدة المقت، والتوتر بينكما، فههنا تكون قد غلبت مفسدة أصل التكلم على مصلحة حسن الكلمة، فينبغي تهدئة الأوضاع وترك الحوار، والسعي في إصلاح ذات البين بكل سبيل، والنظر في أسباب الوصول إلى هذه الحالة ومعالجتها بكل حكمة، فإذا سكن ما في النفوس فلا بد من الرجوع إلى القول الكريم، والكلمة الطيبة؛ فإن هذا من البر الواجب؛ لأن درء المفسدة والحالة هذه مقدم على جلب المصلحة.
ولعله مما يعينك على برها وحسن صلتها، ورعايتها، وعلاج العلاقة المتوترة بينكما: الوقوف على خطورة عقوق الوالدة وعظيم حقها عليك؛ فانظري في ذلك الفتاوى أرقام: 32022 ، 39230 ، 78838 ، 99048 ، 121149 ، 160391 .
والله أعلم.