الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما ما يعطاه بنو شيبة من الهبات، والعطايا فلا حرج في أخذها إن كانت بذلت طوعا على سبيل التبرع والبر والصلة ونحو ذلك، ولا يجوز أخذها إن كانت على سبيل المشارطة والمثامنة كالأجرة.
وقد جاء في فتاوى ابن عليش المالكي سؤال صورته: ما قولكم فيما يعطى لسدنة الكعبة المشرفة الذين خصهم الله سبحانه وتعالى بها، وقد جرت عادتهم بحيازة رئيسهم المفتاح، وتوليه الفتح والغلق، واستلام ما يصل إليهم من البيت، فهل يختص به أم لا؟ وإذا قلتم لا فهل يسوى صغيرهم بكبيرهم، وأنثاهم بذكرهم، أو يخص ذكورهم، وقد جرت عادتهم بقسمة ما يصل إليهم به على جميعهم، وزيادة الرئيس سهما في نظير حفظه المفتاح، ومباشرته الفتح والغلق. فهل له أخذ زائد على ذلك منه، والاختصاص بما يعطاه لتلك الولاية، أو ليس له إلا ما اعتادوه في القسمة، ولو قال المعطي: إنه له خاصة لجهله الشرع والعادة؟
فأجاب الشيخ أحمد دحلان رئيس مدرسي المسجد الحرام، ومفتي الشافعية بجواب مفصل، جاء فيه: اتفق العلماء على أن حجابة الكعبة المشرفة لبني طلحة، لا يجوز انتزاعها منهم، ولا مشاركتهم فيها، وعلى أن ما يحصل لهم بها من البر والصلة كذلك، ومقتضى الأحاديث تسويتهم فيه، وتخصيص ذكورهم، ولكن حيث تراضوا على زيادة رئيسهم سهما، وإعطاء نسائهم، فلا بأس بذلك؛ لأنه معروف وصلة، ولا يجوز لرئيسهم أخذ شيء زائد على ذلك الذي تراضوا عليه مما يأتيهم على سبيل الصلة والعطية، ويكون جميعه مشتركا بينهم، ولو صرح المعطي بأنه لرئيسهم خاصة؛ لأن السهم الذي زادوه له أجرة على حفظه المفتاح، وفتحه وغلقه وغيرها من خدمة البيت، فلا يجوز له الأخذ عليه بوجه آخر؛ لأن إعطاءه إنما كان لهذه الخدمة ولولاها ما أعطي شيئا. وأذكر نصوص العلماء المتعلقة بسدانة البيت المعظم ليعلم منها الجواب عن السؤال بتمامه. اهـ.
ثم ساق طائفة حسنة من النقول عن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم.
ومما جاء فيه: وفي تتمة الفتاوى عن محمد صاحب أبي حنيفة- رضي الله سبحانه وتعالى عنهما-: من أعطي شيئا منه، فإن كان له ثمن فلا يأخذه، وإلا فلا بأس به.
وفي منظومة الطوسي:
وما على الكعبة من لباس ... إن رث جاز بيعه للناس.
ولا يجوز أخذه بلا ثمن للأغنياء ولا للفقراء.
وقال قطب الدين الحنفي: الظاهر أنها إن كانت من السلطان فأمرها يرجع إليه يعطيها لمن يشاء، وإن كانت من الأوقاف فهي على شرط الواقف، وإن جهل عمل فيها بما اعتيد، وقد جرت عادة بني شيبة بأخذها، فيبقون على عادتهم. اهـ. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك.
وقال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية، عند شرح حديث: يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت.
قال: أي: بسبب خدمته على سبيل التبرع، والبر. اهـ.
وقال الكتاني في (التراتيب الإدارية): قال المحب الطبري في الباب الثامن والعشرين، من كتاب القرى: ربما تعلق بعض الجهال به في جواز أخذ الأجر على دخول الكعبة، ولا خلاف في تحريمه، وأنه من أشنع البدع. وهذا ـ أي قوله: "فكلوا مما يصل" ـ إن صح احتمل أن معناه ما يأخذونه من بيت المال على خدمته، والقيام بمصالحه، ولا يحل لهم إلا قدر ما يستحقونه، وما يُقصدون به من البر والصلة على وجه التبرر بهم، فلهم أخذه، وفي ذلك أكل بالمعروف". وحكى على هذا الزرقاني في شرح المختصر الإجماع. اهـ.
وأما أمر الكسوة، فللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحث منشور في العدد السادس والخمسين من (مجلة البحوث الإسلامية) عن كسوة الكعبة المشرفة، فيه نقول عن بعض شراح الحديث، وبعض المؤرخين، وبعض فقهاء المذاهب، مما يتعلق بهذا الموضوع، وجاء في خلاصة هذا البحث في آخره ما نصه:
ومما تقدم يستنتج ما يأتي:
أ- أن عمل السلف -رضي الله عنهم- في كسوة الكعبة المشرفة إذا استغني عنها، هو توزيعها على جهة بر؛ للانتفاع بها، كأية وقف على بر استغنت عنه جهته .. اهـ.
والله أعلم.